من نحن عندما نُراقَب؟
فراس زقطان
ثمة لحظة خفية لا تُدرَّس في المعاهد ولا تُكتب في دفاتر الإخراج، لحظة لا يعرف الممثل كيف يبررها، وأيضا لا يعرف المتفرج لماذا يرتبك عند حدوثها. إنها اللحظة التي يلتقي فيها الوعي بالذات مع الوعي بأن هذه الذات تُراقَب. في تلك اللحظة تحديدا، تتحول خشبة المسرح إلى مختبر قاس للأصالة—مكان لا يسمح بالاحتيال طويلًا، مهما كان الماكياج متقنً، ومهما كان الصوت مدربا.
على الخشبة يطلب من الإنسان أن يكون صادقا وهو يكذب، و عليه أن يكذب بمهارة تكشف صدقه. التناقض هنا ليس خللا، بل طبيعة الفن نفسه فالممثل لا ينجو بأدائه إلا حين يعترف — ولو سرا — بأنه ليس الشخصية التي يؤديها. وعندما يفعل، يصبح قادرا على كشف شيء أعمق.
نحن جميعا نرتدي أقنعة في الحياة اليومية، أقنعة تمنحنا حماية أو مكانة أو قدرة على الانسجام مع الجماعة. لكن المسرح يفرض قناعا مختلفا ,قناعا شفافا. الجمهور لا يرى القناع، لكنه يرى الظلال التي تتحرك خلفه. لذلك كانت خشبة المسرح دائمًا أكثر الأماكن صدقا، ليس لأنها تكشف الحقيقة، بل لأنها تكشف غياب الحقيقة، تكشف مقدار الجهد الذي يبذله الإنسان كي يبدو متماسكا أمام الآخرين.
الممثل حين يُراقَب يتغير و يتخذ وضعية أكثر اتزانا، يختار كلماته بعناية، يضبط وجهه. لكن المفارقة أن كل هذا الضبط يفضحه. إنه يُظهر هشاشة الإنسان حين يصبح متفرجا على نفسه.
الصدق في الأداء ليس أن "نُصدّق الشخصية”، بل أن نلمح صدق الممثل في مواجهته لنفسه. أن نرى كيف يحاول، بتعب شفيف، أن يثبت لنفسه أنه قادر على الوقوف تحت الضوء دون أن ينهار.
والسؤال الأعمق
هل نجرؤ على مواجهة ذواتنا حين تكون العيون موجهة إلينا؟ أم أننا نواصل تشغيل آليات التجميل، التبرير، وتعديل النسخة المنظورة منا كما يفعل البعض على وسائل التواصل؟ المسرح، بهذا المعنى، أكثر واقعية من الحياة الرقمية لا زر حذف، ولا فلتر، ولا إعادة تصوير.
أن تكون أصيلًا على المسرح يعني أن تعترف بضعفك، أن تظهر ذلك الجزء الذي تخبئه عادة، وأن تقف أمام مئات الغرباء وتقول لهم دون لفظ: "هذا أنا، كما هو، كما أهرب منه، وكما أريده أن يظهر”. الأصالة ليست صفة؛ إنها فعل مقاومة: مقاومة للاختباء، للكذب المريح، للمشاهدة دون مشاركة.
في الواقع، الحياة كلها مسرح، لكن بدون نص جاهز. والنتيجة أننا نكذب أكثر مما نتخيل؛ نكذب لنبقى، لنتقدم، لنحمي أنفسنا، أو لنحافظ على فكرة معينة عن ذواتنا. لكن في اللحظة التي نجد فيها أنفسنا مراقَبين — سواء من الآخرين أو من أنفسنا — نفقد جزءًا من هذه القدرة على التمويه.
ربما نكون، في النهاية، الكائن الذي يتوتر حين يسلط عليه الضوء، والذي يتغير حين يشعر أن أحدا يراه. وربما يكون صدقنا الوحيد هو هذا الارتباك ذاته تلك القفزة الصغيرة في داخلنا عندما ندرك أننا مكشوفون.
خشبة المسرح تختبرنا لأنها تجبرنا على النظر إلى ذواتنا من الخارج.
بهذا المعنى، يصبح المسرح ليس فنا فحسب، بل تمرينا أخلاقيا وروحيا عميقا محاولة دائمة للإجابة عن السؤال الأكثر مراوغة في حياة الإنسان.
من نحن حقًا حين نُراقَب؟