د. حمد الكساسبة : يكشف تفاصيل موازنة 2026:

 
 

تعكس موازنة عام 2026 توجهًا واضحًا نحو الانضباط المالي وتعزيز كفاءة الإنفاق العام، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن استمرار التحديات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد الأردني في مسار النمو الشامل. فالموازنة البالغ حجمها الإجمالي نحو 12.8 مليار دينار جاءت في سياق اقتصادي حذر، واستندت إلى فرضيات واقعية فيما يتعلق بالنمو والعجز، ما يجعلها أقرب إلى موازنة استقرار مالي لا موازنة توسع اقتصادي.

وقد بُنيت الموازنة على تقديرات نمو اقتصادي تبلغ نحو 2.9%، مع تحسّن محدود في الإيرادات المحلية نتيجة توسع النشاط الاقتصادي وزيادة كفاءة التحصيل، إلى جانب الحفاظ على نهج مالي متزن يوازن بين ضبط العجز واستمرار الإنفاق الاجتماعي والخدمي.

أما في الملامح العامة، فقد توزعت النفقات بين 11.2 مليار دينار جارية و1.6 مليار دينار رأسمالية، فيما بلغ العجز قبل المنح نحو 2.125 مليار دينار، أي ما يعادل 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي. أما على صعيد موازنة التمويل، فقد بلغت نحو 13 مليار دينار، وتشمل تسديد أقساط القروض المحلية والخارجية بنحو 9.3 مليارات دينار، وتمويل العجز البالغ 2.1 مليار دينار، إلى جانب إعادة تمويل وإصدار أدوات دين جديدة.

ويُظهر هذا التوزيع أن الجزء الأكبر من التمويل موجّه لإدارة الدين العام أكثر من كونه محفزًا للنشاط الاقتصادي، مع استمرار الاعتماد على الاقتراض المحلي من البنوك وصندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي لتقليل الانكشاف الخارجي وضبط كلفة التمويل.

تحمل الموازنة عددًا من عناصر القوة التي تستحق الإشارة إليها:

١. أنها تحافظ على الاستقرار المالي النسبي في ظل محيط إقليمي متقلب، وتؤكد التزام الحكومة بسقف الدين العام وبالاستمرار في نهج الإصلاح المالي دون المساس بالإنفاق الاجتماعي الأساسي.

٢. تُظهر تماسكًا في السياسات المالية والنقدية من خلال ضبط الإنفاق الجاري وتوجيه الاقتراض نحو إعادة هيكلة الدين بدلاً من التوسع في الاستدانة.

٣. خُصص جزء معتبر من النفقات الرأسمالية لمشروعات تنموية ذات أولوية وطنية، بما في ذلك مشروعات رؤية التحديث الاقتصادي التي نالت ما يقارب ربع المخصصات الرأسمالية، ما يعكس محاولة لربط الإنفاق التنموي بمسار الإصلاح الاقتصادي الطويل المدى.

٤. تركيبة الإيرادات تُظهر تحسّنًا تدريجيًا في الإيرادات المحلية مقابل تراجع الاعتماد على المنح، ما يعكس توجهًا نحو تعزيز الاعتماد على الذات كخيار استراتيجي.

٥. ما يقارب 65% من الإنفاق الرأسمالي موجّه لاستكمال مشاريع قائمة مقابل 35% لمشاريع جديدة، ما يعكس انضباطًا ماليًا إيجابيًا وحرصًا على استكمال المشاريع ذات الأولوية، لكنه في المقابل يقلل من الزخم التنموي الجديد المطلوب لتحفيز النمو وخلق فرص العمل.

أما نقاط الضعف في الموازنة فيمكن إبرازها على النحو التالي:

١. استمرار الطابع التشغيلي للموازنة على حساب الطابع التنموي، حيث تبقى النفقات الجارية تشكّل ما يفوق 87% من إجمالي الإنفاق، ما يعكس مشكلة هيكلية مزمنة تحدّ من قدرة الحكومة على توجيه مواردها نحو التنمية والإنتاج.

٢. رغم الجولات الحكومية الواسعة في المحافظات خلال عام 2025، بقيت مخصصات الإنفاق الرأسمالي للمحافظات شبه ثابتة في مشروع موازنة 2026، ما يثير تساؤلات حول مدى انعكاس تلك الجولات على السياسات المالية الفعلية في تعزيز التنمية المحلية.

٣. تعتزم الحكومة اقتراض ما يقارب 9.6 مليارات دينار من السوق المحلية لتسديد التزاماتها التمويلية، ما قد يؤدي إلى مزاحمة القطاع الخاص في الحصول على التمويل اللازم للتوسع في النشاط الاقتصادي، حتى وإن تم الاعتماد كليًا على صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي لتغطية الجزء الأكبر من هذا التمويل.

٤. يستمر ضعف الشراكة الفعلية مع القطاع الخاص رغم إدراج نحو 1.4 مليار دينار لمشروعات شراكة في ملاحق الموازنة، إذ لم تدخل هذه المبالغ ضمن النفقات العامة ولم تُنفذ بعد، ما يجعلها أقرب إلى إعلانات نوايا منها إلى مشروعات حقيقية قادرة على تحريك الاقتصاد.

٥. ما تزال الموازنة العامة تفتقر إلى رؤية متكاملة لربط الإنفاق العام بالأثر التنموي المباشر. فحتى مع ضبط النفقات وتحسين كفاءة التحصيل، لم تُفعّل الحكومة بعد منهجية واضحة لقياس مردود كل دينار يُنفق على النمو والتشغيل والإنتاج، ما يجعلها أداة مالية أكثر منها خطة استثمار وطنية موجهة لتحقيق التنمية المستدامة في المحافظات.

ورغم الانضباط المالي الذي اتسمت به الموازنة، إلا أنها تغفل عددًا من القضايا الجوهرية التي تمس جوهر النمو المستدام في الأردن. فلم تتبنَّ الحكومة سياسة واضحة لدعم القطاعات الإنتاجية ذات الطابع التصديري كالزراعة والصناعة والسياحة والنقل، رغم إدراج مخصصات إضافية لها. كما غابت عن الموازنة مخصصات كافية لمشروعات التحول الرقمي والاقتصاد المعرفي، التي تمثل مستقبل النمو وفرص العمل النوعية.

ولم تُبرز الموازنة توجهًا فعليًا نحو الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة رغم كونها من أبرز مصادر التمويل المستدام عالميًا. كذلك تفتقر الموازنة إلى آلية مؤسسية لقياس الأثر الاقتصادي والاجتماعي للإنفاق الرأسمالي، ما يجعل تقييم كفاءة المشروعات مسألة تقديرية لا رقمية.

يمكن القول إن موازنة 2026 تُكرّس نهج الحذر المالي والانضباط في إدارة الدين، لكنها لا تُحدث اختراقًا حقيقيًا في مسار التنمية. فهي تحافظ على الاستقرار المالي في المدى القصير، غير أن هذا الاستقرار يحتاج إلى ترجمة تنموية ملموسة من خلال توسيع قاعدة الإنتاج، وتمكين القطاع الخاص، وربط الموازنة برؤية التحديث الاقتصادي بصورة تنفيذية واضحة.

فعندها فقط يمكن القول إن الأردن انتقل من إدارة الموارد إلى إدارة التنمية المستدامة، وهي الخطوة التي ينتظرها المواطن والاقتصاد معًا.