كيف ابتلع "التريند الرقمي" الكفاءة الحقيقية في مجال الصحة النفسية؟
انقلاب معايير النجاح المهني
نور حتر
لم تعد الكفاءة والخبرة والوعي العميق – التي تُكتسب عبر سنوات من التدريب والعمل الجاد – هي المحدد الأوحد للمكانة المهنية والتأثير في مجال الصحة النفسية. ففي عصر المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، نشهد تحولاً جذرياً ومقلقاً؛ حيث أصبح التدفق المالي والدعم التسويقي هو المحك الأبرز للانتشار، حتى على حساب الكفاءة الحقيقية. هناك من يمتلك خبرات طويلة ولديه وعي أقل ممن هم في خبرات أقصر، والعكس صحيح، لكن الفارق الفعلي يكمن في قدرة الأفراد على الظهور والوصول.
أولاً: صراع المعايير وميلاد "فقاعات المحتوى"
تتركز الأزمة في صراع بين نظامين متناقضين لتقييم المختصين. فالمعيار التقليدي يقيس المكانة بـ الخبرة الطويلة والعمق المعرفي، بينما يقاس التأثير في العالم الرقمي بـ الانتشار الواسع وحجم الدعم المالي والقدرة على خلق محتوى جذاب.
هذا التفاوت يخلق "فقاعات محتوى" تكتسب مكانتها من الترويج لا من الجودة، مما يؤدي إلى ظلم الكفاءات التي لا تملك الموارد المالية الضخمة للتسويق، ويخلق وهم كفاءة لدى الجمهور. الانتشار لم يعد دليلاً على الكفاءة.
ثانياً: تآكل المصداقية والمعضلة الأخلاقية للشهادات
تزداد الأزمة حدة مع تدهور قيمة المؤهلات الرسمية. لم تعد الشهادة ضماناً قوياً للكفاءة؛ فقد أصبح من السهل، للأسف، أن تُشترى الشهادات، وغالباً ما يكون من يبيعها من مقدمي الخدمة أنفسهم أو مؤسسات غير معتمدة. هذا يلوث مصادر المعرفة والتدريب الأساسية، ويؤدي إلى أزمة ثقة مجتمعية في الأسس التي يقوم عليها المجال.
ثالثاً: فقدان البوابات الأخلاقية ودوافع الدخول للمهنة
الملاحظة الأعمق والأكثر إثارة للجدل هي أن دخول هذا المجال لم يعد محكوماً بالضرورة بمعايير نفسية وأخلاقية صارمة. الدافع لم يعد الالتزام المهني أو الاستعداد النفسي، بل أصبح اقتناص "تريند" الصحة النفسية كفرصة للربح السريع. هذا يعني أن الكثير من الدخلاء يفتقرون إلى الوعي الكافي والاستقرار النفسي المطلوبين للتعامل مع ضعف العملاء.
تحليل التناقضات الداخلية للمختص:
* الكفاءة مقابل الوعي: المختص قد يكون كفؤاً تقنياً في تطبيق البروتوكولات، لكنه يفتقر إلى الوعي العميق بالسياق الإنساني والحدود الأخلاقية، مما يجعل ممارسته آلية وغير مرنة.
* الشهادة مقابل الاستقرار النفسي: الشهادة قد تثبت المعرفة النظرية، لكنها لا تضمن أن الممارس لائق نفسياً لحمل مسؤولية المهنة.
ولكن ترى أين نمضي؟**
في ظل هذا الانقلاب الرقمي في معايير الكفاءة المهنية، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل نحن أمام إعادة تعريف جذرية لمفهوم "الاختصاصي النفسي"؟
هل سيصبح التأثير الرقمي معيارًا جديدًا للكفاءة، أم أن هناك صحوة قادمة تعيد الاعتبار للخبرة والوعي؟
كيف يمكن للمجتمع أن يميز بين المختص الحقيقي والمحتوى المزيف؟
وهل ستنشأ منصات تقييم مستقلة تعيد التوازن بين الانتشار والجودة؟
ثم، ما هو دور المؤسسات الأكاديمية والمجتمعية في حماية المجال من التلوث المعرفي والأخلاقي؟
هذه الأسئلة لا تبحث عن إجابات جاهزة، بل تدعو إلى حوار صادق ومسؤول، يعيد بناء الثقة في مهنةٍ جوهرها الإنسان، لا الخوارزميات.
---الاخصائيه النفسية العيادية