تمكين المرأة بين النظرية والتطبيق

ماجد احمد السيبيه


لم يكن مفهوم تمكين المرأة يومًا شعارًا طارئًا على المجتمعات العربية، بل هو ثمرة تحولات فكرية واجتماعية طويلة بين النظرة التقليدية التي حصرت دورها في نطاق الأسرة، وعصر الحداثة الذي وسّع الأفق ليجعلها شريكًا فاعلًا في التنمية وصنع القرار. ومع ذلك، ما زال الطريق بين النظرية والتطبيق مليئًا بالعُقد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيق اكتمال التجربة.

قبل عقود قليلة، كان حضور المرأة في الحياة العامة محدودًا، إذ كانت الأدوار توزّع وفق منظومة اجتماعية تمنح الرجل سلطة القيادة، وتُبقي المرأة في دائرة المساندة. ومع موجة الانفتاح والتعليم، بدأت تلك المعادلة تتغير تدريجيًا، فانتقلت المرأة من موقع التبعية إلى موقع المشاركة، وبدأ حضورها الاقتصادي يتجلى في مؤسسات ومشاريع صغيرة ومتوسطة تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الناتج القومي. هذا التحول لم يكن مجرد انتقال في الأدوار، بل تغييرًا في الوعي الجمعي ذاته.

غير أن التمكين الحقيقي لا يتحقق بالشعارات، بل بالعلم والتعلّم ونقل المعرفة. فكل التجارب الناجحة تؤكد أن التعليم هو البوابة الأولى، لكن الإشكال ما زال في الفجوة بين التحصيل العلمي وفرص العمل، حيث تُهدر كفاءات كثيرة بسبب ضعف البنية الاقتصادية أو استمرار النظرة التقليدية لأدوار النساء. وهنا يبرز السؤال: ما جدوى التعليم إن لم يتحوّل إلى قدرة إنتاجية وفرص حقيقية في سوق العمل؟

أما الدين الإسلامي، الذي يُستشهد به أحيانًا لتبرير القيود، فقد كان في جوهره منصفًا للمرأة ومكرمًا لها، لكن العادات والتقاليد كثيرًا ما طغت على المقاصد. الخلل لم يكن في النص، بل في تفسيره الاجتماعي الذي حوّل ما هو ثقافي إلى ما يشبه القداسة. ومع ذلك، أثبتت كثير من النساء أن الموازنة بين الالتزام الديني والمشاركة المجتمعية ممكنة متى توافر الوعي والفهم الصحيح.

وتبقى الأسرة حجر الأساس في هذه المنظومة؛ فالتربية التي تغرس الثقة والاستقلال والمسؤولية في الفتيات تصنع نساءً قادرات على اتخاذ القرار لاحقًا. لكن بعض الأسر، بدافع الخوف أو الأعراف، تضع أول الحواجز أمام بناتها، فتحرمهن من التجربة ثم تتحدث عن ضعف حضور المرأة في المجتمع. ومن جهة أخرى، لا يمكن إنكار أن عصر الانفتاح الرقمي، رغم أنه منح المرأة صوتًا أكبر، أدخل إلى المشهد مظاهر سطحية جعلت بعض القضايا تُختزل في استعراض لا في إنجاز، فضاع أحيانًا التوازن بين الوعي والحرية.

تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن مشاركة المرأة العربية في سوق العمل لا تتجاوز في المتوسط 25%، رغم أن نسب التعليم الجامعي بين الإناث تتخطى 55% في بعض الدول. هذه المفارقة تشرح أن التمكين الاقتصادي لم يواكب التمكين التعليمي، وأن جزءًا كبيرًا من الجهود ما زال يضيع في المبادرات الشكلية والمناصب الرمزية. فبينما نحتفي بنماذج مشرّفة حققت إنجازات حقيقية في الطب والهندسة والإدارة والسياسة، تتعثر مبادرات أخرى لأنها لم تلامس الواقع أو انشغلت بالمظهر أكثر من الجوهر.

وفي الجانب السياسي، شهدت المجتمعات العربية حضورًا نسائيًا أوسع عبر الكوتا والمقاعد المخصصة، غير أن المشاركة الفعلية في صنع القرار ما زالت محدودة. الحضور لا يساوي التأثير، والتمثيل لا يعني بالضرورة التمكين، ما لم يُترجم إلى سياسات ومبادرات مؤثرة.

ويبقى السؤال الذي يتكرر في كل نقاش: من هو عدو المرأة الأول؟ الإجابة لا تختصر في الرجل كما يروّج البعض، بل في الذهنية الجامدة التي تخشى التغيير، سواء كانت في المجتمع أو في النساء أنفسهن. فالتمكين لا يعني معركة بين الجنسين، بل مشروع وعي وشراكة إنسانية متوازنة. وحتى الاهتمام المتزايد بتمكين المرأة، رغم ضرورته، خلق أحيانًا حالة من اختلال الأدوار حين طغى الخطاب الموجه للمرأة على مسؤولية الرجل الاجتماعية والأسرية، فبدت الصورة وكأننا نُمكّن طرفًا على حساب آخر، بينما الهدف الأصيل هو التكامل لا الإزاحة.

لقد تجاوزنا اليوم مرحلة طرح السؤال "كيف نُمكّن المرأة؟”، وأصبح الأجدر أن نسأل: متى ننتقل من مرحلة التمكين إلى مرحلة تعزيز الدور؟ حين تصبح مشاركة المرأة في القرار والعمل والتعليم أمرًا طبيعيًا لا يحتاج إلى شعارات ولا إلى موازنات خاصة، عندها فقط نكون قد بلغنا جوهر التمكين الحقيقي، وهو أن تكون المرأة جزءًا أصيلًا من معادلة النهضة لا بندًا مستقلًا في برامجها.