المنسي يكتب: التحولات في حزب العمال البريطاني

وائل المنسي 

بينما نبدأ سلسلة مقالات تحليلية حول التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبرامجية لحزب العمال البريطاني، يمكن ملاحظة تشابه لافت بين أزمته الحالية وما تمرّ به الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في المنطقة ومنها الأردن. 
فكلاهما يعاني من تآكل المرجعية الاجتماعية الديمقراطية لصالح نزعة نيوليبرالية جعلت الحزب أقرب إلى مؤسسة إدارية منه إلى حركة فكرية تعبّر عن قيم العدالة والمساواة.

سياق الوضع الداخلي في حزب العمال البريطاني: 

لا يزال حزب العمال البريطاني غارقًا في صراع داخلي مرير بين جناحين متنازعين: التيار البليري الوسطي، الذي يسعى إلى إعادة الحزب نحو "الطريق الثالث” الذي صاغه توني بلير، وبين التيار الكوربني اليساري، الذي يمثل الامتداد الأكثر وضوحًا وجذرية للعدالة الاجتماعية والمساواة الطبقية.
لم يعد الخلاف مجرد تنافس شخصي أو تنظيمي، بل أصبح صراعًا على هوية الحزب وموقعه الاجتماعي والسياسي:

 هل يبقى ممثلًا للعمال والمهمشين، أم يتحول
 إلى حزب تكنوقراطي يسعى لاسترضاء رأس المال والطبقة الوسطى؟

قرارات المجلس القيادي للحزب الأخيرة، التي قضت بحظر أربع مجموعات يسارية موالية لجيريمي كوربين (منها "النداء الاشتراكي” و”مطاردي الساحرات”)، تؤشر إلى توجهٍ لتقليص نفوذ التيارات الفكرية داخل الحزب، وإلغاء المنابر التي كانت تشكّل فضاءات للتنوع والجدل الداخلي.

كما أُجريت تعديلات على النظام الأساسي منحت القيادة صلاحيات أوسع وألغت بعض الهياكل التشاركية القديمة، مما جعل الحزب أكثر مركزية وضيقًا في صنع القرار، على حساب القواعد والهيئات المحلية.

في المقابل عبر قادة يساريون سابقون مثل جون ماكدونيل عن استيائهم من هذا التحول الذي وصفوه بأنه "بيروقراطية مفرطة تخنق الديمقراطية الداخلية” و”تراجع عن روح المشاركة الحزبية”.

واستعادت القيادة شخصيات من عهد بلير مثل بيتر ماندلسون وديفيد إيفانز، في دلالة على عودة المدرسة البليرية التي تميل إلى الانضباط التنظيمي على حساب التعددية الفكرية.

ورغم محاولات الإقصاء، بقي الذراع الشبابي للحزب  المرتبط بحركة "مومينتوم” " Momentum " عنصرًا نشطًا ومؤثرًا في الدفاع عن القيم اليسارية، ما جعل الصراع داخل الحزب يمتد من القمة إلى القاعدة.

الأبعاد السياسية والهيكلية للصراع:

تحوّل الصراع داخل حزب العمال إلى معركة بنيوية حول شكل السلطة الحزبية.
 فبدلًا من أن يكون الحزب مساحة حوار ديمقراطي داخلي، أصبح أكثر انغلاقًا وتراتبية.
القضية التي اندلعت تحت عنوان "معاداة السامية”، والتي أُقصي بسببها كوربين وريبيكا لونغ-بيلي، استخدمت أداة لإعادة رسم موازين القوى داخل الحزب وإضعاف التيارات المعارضة.
وهكذا تحولت أزمة الأفكار إلى أزمة في البنية التنظيمية، بعدما تراجع دور النقابات والأجنحة الفكرية لمصلحة قيادة مركزية ضيقة تتحكم في الخطاب والسياسات، بما يشبه إدارة شركة أكثر مما يشبه حركة سياسية ذات عمق اجتماعي.

البعد البرنامجي والاجتماعي:

منذ تولي كير ستارمر القيادة، اتجه حزب العمال نحو الواقعية الاقتصادية والوسطية السياسية، متخليًا عن لغة العدالة الطبقية التي شكّلت تاريخه.
البرنامج الحزبي الجديد بات يركّز على "الاستقرار الاقتصادي” و”المسؤولية المالية”، بينما تراجعت مفاهيم مثل إعادة توزيع الثروة والضرائب التصاعدية والدفاع عن القطاع العام.
لكن هذا التحول لم يقنع الناخبين؛ إذ تُظهر استطلاعات الرأي تراجع التأييد لستارمر واستمرار تقدم المحافظين، مما يشير إلى أن الجمهور لم يعد يرى في حزب العمال بديلاً حقيقيًا، بل نسخة مخففة من خصمه السياسي.

لماذا هذه الأزمة مهمة؟

تتجاوز أزمة حزب العمال حدود بريطانيا، فهي تمسّ جوهر المشروع الديمقراطي الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين.
حين تُلغى التيارات الفكرية والمنابر الحوارية، وتُحصر القرارات في دائرة ضيقة من القادة، فإن الحزب يفقد قدرته على التطور الذاتي، وتتحول الديمقراطية الداخلية إلى طقوس شكلية.
تشير دراسات بريطانية إلى أن هذا النمط من المركزية الحزبية يؤدي إلى تآكل الثقة بين القيادة والقاعدة، وإلى عزوف الشباب عن العمل السياسي داخل الحزب، بعد أن فقدوا شعورهم بالتأثير والمشاركة.

ما بعد ٧ أكتوبر: نحو إعادة تعريف الهوية السياسية
ومع تصاعد الأحداث في الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر 2023، برزت القضية الفلسطينية كمحرار جديد لانقسام الحزب.
 فبينما تبنّى الجناح اليساري موقفًا إنسانيًا واضحًا داعمًا لحقوق الفلسطينيين، انحاز الجناح الوسطي إلى خطابٍ غربي حذر، يخشى الاصطدام بالمؤسسات الإعلامية والسياسية الكبرى.
هذا الانقسام كشف عن تناقض عميق في القيم؛ بين من يرى العدالة مبدأً عالميًا، ومن يراها انتقائية ومشروطة بالسياق السياسي الغربي.

تكشف أزمة حزب العمال البريطاني عن منعطف تاريخي في مسار الديمقراطية الاجتماعية، بين العودة إلى جذورها أو الاندماج التام في النيوليبرالية.
وقد شكّل هذا الفراغ الفكري والسياسي دافعًا لجيريمي كوربين وعدد من المستقلين والمنشقين إلى تأسيس حزب جديد تحت اسم "Your Party”، يسعى إلى إعادة اللون اليساري الحقيقي للديمقراطية الاجتماعية، ولكن في قالب أكثر حداثة وواقعية.
في الحلقة القادمة سنتناول تجربة كوربين الجديدة، وكيف يحاول هذا التيار الناشئ والصاعد بقوة، أن يستعيد جوهر المشروع العمالي الأصلي، حزب العدالة الاجتماعية والمساواة، في مواجهة هيمنة النيوليبرالية على السياسة البريطانية الحديثة.