كيف نقرأ خطاب العرش 2025؟
بقلم: يونس الكفرعيني
في صباحٍ وطني مهيب، وقف جلالة الملك عبدالله الثاني تحت قبة مجلس الأمة، ليُلقي خطاب العرش السامي، معلنًا افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس النواب العشرين، لم يكن الخطاب مجرّد كلمات تُتلى أمام الحضور، بل كان رسالة دولة تتجدد، وتؤكد أن المسيرة الأردنية لا تُقاس بالأزمات التي تعترضها، بل بالقدرة على النهوض من قلبها، كما ينهض الضوء من جوف الغيم.
بدأ جلالة الملك خطابه باسم الله، مستدعيًا الثوابت التي تنهض عليها الدولة الأردنية منذ تأسيسها: الإيمان، والمسؤولية، والاستمرار.
قال جلالته:
"أقف أمامكم كما أقف في كل عام في هذا المكان، الذي شهد فجر خدمتنا لهذه الأمة..."
في هذه العبارة وحدها تختصر معاني العهد، والوفاء، والديمومة، إنها ليست تحية بروتوكولية، بل تذكير بأن خدمة الوطن ليست موسماً سياسياً، بل قدرٌ ومسؤولية مستمرة، ومن هنا، جاءت نبرة الخطاب واثقة، متزنة، بعيدة عن الانفعال، لكنها مشبعة بصدق الدولة ووعيها لذاتها
قال جلالة الملك في إحدى أكثر الجمل دلالة وعمقًا:
"هذه الأمة التي كُتب عليها أن تولد في وسط الأزمات، لم تكن الأزمات استثناءً في تاريخها، بل رفيقة طريقها منذ البداية."
بهذه العبارة، تحوّل مفهوم الأزمة من عبء إلى طاقة، الأردن لا يتنكّر لصعوباته، بل يُعيد تعريفها كفرص لبناء الصلابة الوطنية، في فكر الدولة، الأزمة ليست حالة ضعف، بل مختبرٌ للإرادة، وهنا تكمن عبقرية الخطاب: أنه لا يطلب من الناس الصبر السلبي، بل يدعوهم إلى النهوض الفاعل، إلى تحويل التحديات إلى قوة دفع نحو المستقبل.
جاء الخطاب كنداء صريح إلى جميع السلطات والمؤسسات لتجاوز مرحلة الوعود إلى مرحلة الإنجاز، فالإصلاح الذي بدأ مساره السياسي والاقتصادي والإداري لم يُرِد له جلالة الملك أن يبقى وثيقة نظرية، بل واقعًا ملموسًا في حياة المواطن، فالرسائل كانت واضحة:
إلى الحكومة: آن الأوان أن يتحول التخطيط إلى نتائج، إلى البرلمان: الرقابة والتشريع مسؤولية تاريخية لا منبر للجدل، إلى المؤسسات: الاستمرارية والشفافية هما أساس الثقة، إلى المواطن: الإصلاح شراكة لا خدمة تُقدَّم، كل جملة في الخطاب كانت تحمل روح العمل، لا مجرد التنظير، وتقول بلغة غير مباشرة: الأردن في امتحان الجدية، والنجاح مرهون بالفعل،
إنّ لحظة وقوف جلالة الملك في البرلمان ليست طقساً شكلياً، بل مشهدٌ رمزي بامتياز، العرش هنا ليس سلطة فوقية، بل شريك في المساءلة؛ يلتقي بممثلي الشعب تحت قبةٍ واحدة، ليؤكد أن الدولة الأردنية لا تُدار من برجٍ عاجي، بل من قلب مؤسساتها الدستورية، وفي المشهد الرمزي ذاته، يتجدد المعنى العميق للملكية الدستورية الأردنية:
قيادة تحكم بالشرعية، وتستمدّ قوتها من دستورٍ ثابت، وشعبٍ صابر، ومؤسساتٍ تعمل رغم كل التحديات.
لم يَعِد جلالة الملك بما هو مستحيل، بل طالب بما هو ممكن، أكد أن طريق الإصلاح طويل، لكنه ممكن بالثقة والالتزام.
فالخطاب ليس نبوءة سياسية بقدر ما هو إعلان لمزاج دولة تؤمن بأن الأمل ليس ترفًا، بل أداة بقاء، وفي كل سطر، يتجلى حرص جلالة الملك على أن تبقى الثقة بين المواطن ومؤسساته متينة، لأن الدولة – كما أرادها – هي عقد ثقة متجدد، لا عقد سلطة أحادية.
في عمق الخطاب، تبرز الروح الإنسانية التي تميّز جلالة الملك عبدالله الثاني في خطبه كافة، فهو لا يتحدث بلغة الحسابات وحدها، بل بلغة الإنسان: الشباب، المرأة، التعليم، الكرامة، المشاركة، والعدالة، فالخطاب يحمل بين حروفه نداءً أخلاقياً: أن نبقى متماسكين كأمة تواجه الظرف لا تتهرب منه، وأن نحافظ على وجه الأردن المضيء، هذا الوجه الذي رسمته تضحيات الأجيال، وصاغته يد القيادة بالحكمة والصبر.
جلالة الملك لم يطلب معجزات، بل دعا إلى إعادة تعريف المسؤولية في الوعي العام، قال للعامل والموظف والمعلم والإداري:
إنّ التحديث يبدأ من تفاصيل عملك، من انضباطك اليومي، من احترامك للنظام، من إيمانك بأن الأردن ليس مجرد وطن تسكنه، بل مشروع تسهم في بنائه، إنه خطابٌ يدفع النخبة، لا لترف التفكير، بل لجدية المشاركة، يدعو الإداريين إلى النزاهة، والمثقفين إلى النقد البنّاء، والإعلاميين إلى الإنارة لا الإثارة، لأن الإصلاح لا ينجح إلا بتكامل الأدوار.
إن خطاب العرش لعام 2025 لا يُقرأ كحدثٍ سنوي فحسب، بل كمفصلٍ في الوعي الأردني الحديث، هو تذكير بأنّ الأردن ليس عابراً في الجغرافيا، بل رسالة في التاريخ، بلدٌ صغيرٌ في المساحة، كبيرٌ في العطاء، يُعيد اليوم صياغة تجربته السياسية والاقتصادية بإيمانٍ لا يلين.
لقد قدّم جلالة الملك رؤيته بلسانٍ هادئ، لكنه محمّل بثقةٍ كبيرة: أنّ المستقبل الأردني يُبنى على الأفعال، لا على التصريحات، وأنّ الأردن – مهما ضاقت به الظروف – يبقى أكبر من أزماته، وأقوى من رياحه، وأصدق من ضجيج السياسة حوله.