ابو حبلة يكتب: قرارات محكمة العدل الدولية
علي ابو حبلة
يشكل الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية محطة قانونية فارقة في مسار القضية الفلسطينية، إذ جاء ليؤكد بوضوح الالتزامات القانونية والإنسانية الواقعة على عاتق إسرائيل باعتبارها قوة احتلال، خاصة تجاه سكان قطاع غزة الذين يرزحون تحت حصار خانق وعدوان مستمر يخالف أبسط قواعد القانون الدولي الإنساني.
أولاً: تأكيد المكانة القانونية للشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة
يُعيد الحكم الأخير إلى الواجهة الصفة القانونية للأراضي الفلسطينية باعتبارها أراضي محتلة، ويُذكّر المجتمع الدولي بأن الشعب الفلسطيني يتمتع بحقوق أصيلة غير قابلة للتصرف، وعلى رأسها الحق في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية وحق تقرير المصير.
فمحكمة العدل الدولية، وهي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، شددت في قرارها على أن إسرائيل ملزمة قانونًا بضمان حماية المدنيين الفلسطينيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، لا سيما عبر وكالة الأونروا التي اعترفت المحكمة بدورها المحوري وحياديتها واستمراريتها كمنظمة أممية ذات ولاية واضحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ثانياً: مسؤولية إسرائيل القانونية وفق القانون الدولي الإنساني
أكدت المحكمة في حكمها أن عرقلة إسرائيل المتكررة لعمل الأونروا والمنظمات الإنسانية تشكل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف لعام 1949، ولا سيما الاتفاقية الرابعة الخاصة بحماية المدنيين في زمن الحرب.
وبذلك، أعادت المحكمة التأكيد على أن التزامات دولة الاحتلال ليست مسألة سياسية أو تقديرية، بل واجب قانوني دولي ملزم، وأن استهداف موظفي الإغاثة والمنشآت المدنية يدخل ضمن نطاق جرائم الحرب التي تستوجب المساءلة أمام القضاء الدولي.
ثالثاً: دلالة الاعتراف الدولي بالأونروا كمنظمة محايدة
يحمل تأكيد المحكمة على حيادية الأونروا دلالات قانونية وإنسانية بالغة الأهمية، خاصة في ظل الحملات التي استهدفتها خلال السنوات الأخيرة لتقويض دورها أو تجفيف مصادر تمويلها.
فمن خلال هذا الحكم، أوضحت محكمة العدل الدولية أن الأونروا ليست طرفًا سياسيًا بل ذراعًا إنسانية للأمم المتحدة، وأن تقويض عملها يشكل مساسًا بمكانة الأمم المتحدة ذاتها وبالتزامات المجتمع الدولي تجاه اللاجئين الفلسطينيين، الذين ما زالوا ينتظرون تطبيق القرار الأممي رقم 194 القاضي بحق العودة والتعويض.
رابعاً: مسؤولية المجتمع الدولي وآليات تنفيذ الحكم
لم يكتفِ الحكم بتحميل إسرائيل المسؤولية، بل وجّه أيضًا رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي بضرورة ضمان تنفيذ القرار ومحاسبة منتهكي القانون الدولي.
فالمحكمة، من خلال لغتها القانونية الدقيقة، أرست مبدأ أن التقاعس الدولي عن تطبيق أحكامها يشكل إخلالًا بسيادة القانون الدولي، ويقوّض الثقة بمؤسسات العدالة الدولية.
ومن هنا، يصبح واجبًا على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، خصوصًا الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف، التحرك لضمان احترام وتنفيذ الحكم، بما في ذلك اتخاذ تدابير عملية ضد من يعرقل المساعدات الإنسانية أو يستهدف المدنيين.
خامساً: بين العدالة القانونية والعدالة الإنسانية
يأتي هذا الحكم في لحظة تاريخية يعيش فيها الفلسطينيون، خصوصًا في غزة، أسوأ كارثة إنسانية منذ عقود. ومع أن قرارات محكمة العدل الدولية لا تمتلك أدوات تنفيذية قسرية، إلا أن قيمتها القانونية والأخلاقية والمعنوية هائلة، إذ تمثل تثبيتًا لحق الفلسطينيين في العدالة وتوثيقًا رسميًا لانتهاكات الاحتلال، تمهيدًا لمساءلة إسرائيل أمام الهيئات القضائية المختصة، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية.
خاتمة
إن الحكم الصادر ليس مجرد خطوة قضائية، بل هو انتصار لسيادة القانون الدولي وكرامة الإنسان الفلسطيني، ورسالة واضحة بأن العدالة وإن تأخرت لا تموت.
ويبقى التحدي الحقيقي في مدى استعداد المجتمع الدولي لترجمة هذا الحكم إلى التزام عملي يضمن إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، ويعيد التأكيد أن الحق الإنساني والقانوني لا يُقهر أمام منطق القوة والاحتلال.