جرار يكتب: الاستنكاف استشعارًا للحَرج!

بشار جرار

استنكف فلانٌ استشعارا للحرج، «رِكيوز» بالإنجليزية. كلمة تعلمتها أثناء أول صدام بين ترمب وأول وزير عدل يختاره في ولايته الأولى. جِف (جيفري) سيشنز، كان أول عضو في مجلس الشيوخ يعلن تأييده المبكر للمرشح الخلافي -كان وما زال- دونالد ترمب الذي عارضته القوى التقليدية في واشنطن أو ما تعرف الدولة العميقة، وكذلك المؤسسة، مؤسسة الحزب الجمهوري، وعلى نحو خاص المحافظون الجدد المعروفون اختصارا ب «نيو كُنز»، وبشكل أكثر حدة مؤيدو بوش الأب والإبن. ربما الأخير كان الأكثر شخصنة للعداء المستحكم أو لنقل عدم الاستلطاف بين الجانبين (ترمب وبوش).

سيشنز، وخلافا لتوقعات ترمب ودعواته المتكررة ضمنيا ومن ثم علانية قرر كوزير للعدل إعفاء نفسه في الحكم على أول مواجهة قضائية-سياسية بين ترمب وخصومه، وذلك «استشعارا للحرج» وهي مسألة صارت أكثر كارثية من حيث العواقب القضائية والسياسية وحتى الإدارية في أواخر ولايته الأولى وبعدها، عندما رفض خلفه وزير العدل بِل (وليام) بار، الأخذ بشكاوى أو مزاعم ترمب بأن تزويرا كبيرا قلب نتائج انتخابات 2020 التي لا يزال ترمب وغالبية مؤيديه خاصة من حركة «ماغا»، يؤمنون بأنها كانت مزورة وبشكل كبير وفاضح.

اختار مناهضو ترمب في الولاية الثانية السبت لتنظيم مسيرات «مليونية» في أنحاء مختلفة من البلاد تحت شعار «لا ملوك» في أمريكا حيث زعم المنظمون وهم تحالف عجيب غريب سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا، زعموا أن ترمب يتصرف وكأنه ملك مطلق السلطات، الأمر الذي نفاه في تغريدة على منصته «تروث سوشال»، رغم منشورات أقل ما يقال فيها إنها خارجة عن المألوف قام بتغريدها هو نائبه جيه دي فانس استند محتواها المصور عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي على السخرية اللاذعة من خصوم ترمب.

ولعل الصحافة التي تطلق على نفسها لقب «صاحبة الجلالة» ك «سلطة رابعة» قد استشعرت الحرج، فاختارت الصمت أمام تلك المزاعم أو -وهو الأكثر سوءًا- قررت كالعادة الانحياز إلى ما تعرف ب «ثقافة القطيع» أو تحول بعض أعضائها وإن كانوا رموزا كبيرة، إلى ناشطين وما هم بصحفيين.

ما رأيته بأم عيني وعرفته على مدى عقدين ونيّف عن ذلك الخليط الهجين الذي تم تجنيده بمليارات جورج سورس و»مجتمعه المفتوح» أمريكيا وعالميا وشرق أوسطيا، هو أنه -أي تلك الخلطة الوصولية- رمز من رموز الانتهازية الرخيصة المقززة. كيف تكون المعارضة لمن يوصف بملك أمريكا وما يعنوه أنه ديكتاتور أو حاكم مستبد، كيف تكون عبر الشتائم البذيئة المكتوبة على علم البلاد «مقلوبا» في إشارة إلى تعرض البلاد لاحتلال أو كارثة وجودية تتطلب التدخل، التدخل من قبل من وتمويل من والتحقيقات جارية لتعقب مصادر التمويل منذ إعلان «أنتيفا» منظمة إرهابية وهي اختصار لشعار «مناهضة الفاشية»؟ ومن يقف خلف الدعوات إلى التمرد و الثورة، الثورة على من؟ وسرعان ما تأتي الإجابة عبر مزيد من اللافتات والصياح الذي رأيت وسمعت أثناء انتظاري إشارة مرورية في زحام وسط مئات السيارات. كلمات نابية مكتوبة يرفعها أحداث اصطفوا على جانب الطريق دون تعطيل السير لحسن الحظ. أعلام غير أمريكية مرفوعة أحدها من الشرق الأوسط. هتافات ولافتات تدعو إلى العنف بحق هيئات إنفاذ القانون، تحديدا تلك الخاصة بمكافحة الهجرة غير الشرعية، والقائمة على ترحيل من ثبت اقترافهم فضائع إجرامية متكررة، صادرة بحقهم أحكام قضائية، ومن بينهم من تكرر ترحيله وعاد متسللا إلى البلاد عبر عصابات تهريب البشر والأسلحة والمخدرات. من بين تلك الجرائم، جنايات كبرى كالقتل والاغتصاب والاتجار بالبشر والأعضاء البشرية والسموم المسماة المخدرات. ما دخل علم فلسطين وكوفية لم تقتصر على الأبيض والأسود والأحمر، بل زادوا عليها تلك الملونة إرضاء لل «القزحيين»، وصور تشي غيفارا ومغني موسيقى الريغي، بوب مارلي وهو يدخن المروانا، ما دخل هذه الخلطة الهجينة بكل هذا، وما علاقة شعارات وقف الحروب أو التحرير في أي مكان في العالم بالدعوة إلى ما يسميه اليسار المنحل المختل «الحرية في اختيار الهوية الجنسية» بل وفرضها قسريا على الأطفال حتى في مرحلة الحضانة تحت طائلة سحب الوصاية من الوالدين كما فعلت ولاية مينيسوتا التي كان حاكمها طامحا في منصب نائب الرئيس للمرشحة الديموقراطية كامالا هاريس؟! ما دخل الانتقائية في النظر إلى لون البشرة في انتخابات، وتنحيتها جانبا في انتخابات أخرى، اللون والعرق كان ورقة اللعب الرئيسية بين ترمب وهاريس لكن المعايير ليست كذلك بين المتنافستين على منصب حاكمة ولاية فرجينيا الآن، كون «الاسطوانة» مشروخة، ومرشحة الحزب الجمهوري هي المهاجرة والمنحدرة حقا لا زعما من أصول إفريقيا (لا هندية-جمايكية ككمالا هاريس نائب الرئيس السابق ومرشحة الحزب الديموقراطي بعد انقلابه على جو بايدن).

استشعار الصحافة الحرج في أي مكان -أمريكا أو الأردن- من العرض الحقيقي النقدي للأحداث أينما كانت، ليس مجرد استنكاف عن أداء الواجب، بل مساهمة صامتة على انتشار الباطل وتوغّله، وبالتالي استفحال مخاطره. في نظري لا فرق بين التحالف الشيطاني بين قوى سياسية انتهازية وصولية على أي ضفة من ضفاف الأطلسي أو المتوسط، فالخطر واحد وقد صارا جهارا نهارا حيث لا يقف ذلك التحالف الخبيث عند حدود التخادم الوظيفي بل والتواطؤ السافر لتمرير ما خفي. وما خفي أعظم.. أي منطق هذا الذي يطرب متطاول على الملكية في أمريكا والمغرب ومن مول حراكهما وحشد جيل «الجِنزي» فيه واحد، تغريدة توكل كرمان الحائزة بترشيح عملي من هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية والمرشحة الرئاسية الأسبق إبان ما شهدته المملكة المغربية الحبيبة قبل أسابيع تميط اللثام عن نوايا دعاة الفوضى والخراب. تظاهرات وتنسيقيات مليونية ينظمها حزب من جلب تريليون دولار في أربع سنوات مقابل سبعة عشر تريليون دولار نجح ترمب في جمعها من العالم لاستثمارها داخل أمريكا في أقل من تسعة أشهر. منطق عجيب يحكم إصرار بعض المؤيدين والمعارضين على شخصنة الصراع على السلطة دون اعتبار لمصالح البلاد أمنا ونماء. إنما هي حرفة الإعلام المتحكم بالصورة والمشهد والسردية..