جرار يكتب: شاهد عيان «ماشفش حاجة»!

بشار جرار

أغبط أشقاءنا في الإمارات، تحديدا في إعلامها الرسمي على اختيار «عْلوم الدار» عنوانا لما تقدمه من أخبار. لهجاتنا متقاربة لكون لسانها عربيا مبينا. فالعْلوم هي الأخبار، والدار هو الوطن، والوطن هو بيت كل واحد فينا وأسرته وداره مما يستوجب الخصوصية وأحيانا السرية التامة احتراما لما ينبغي أن يبقى بين الأسرة الواحدة تحت سقف واحد. الدار والديرة شيء واحد في ضمير من صحّت عنده المعايير، واتضحت عنده الرؤيا والرؤية..

يحزنني -وتلك مشاعر أعلم من دوائري الأسرية والاجتماعية والمهنية- أنها تحزن الجميع في الوطن والمهجر، تحزننا تلك «الأخبار» التي تتسابق بعض المنصات وتهرول بعض الحسابات -وكثير منها خارج البلاد- تسارع إلى نقل ما تحسبه في ميزان الأخبار، أخبارا!

سمعنا عن نظرية العاقر والمعقور في تعريف الخبر، بأنه إن عض كلب إنسانا ليس بخبر، لكن إن عض إنسان كلبا فذلك هو خبر الأخبار! تعريف -عفا عليه الزمن- وتجاوزته صحافة القرن الواحد والعشرين. فالأمر منوط بمعايير أهم، منها من هو ذلك الإنسان وحتى الكلب من أي فصيلة هو، وأين تمت عملية العضّ هبشا ونشا أو «عضْعضَة» لا غضاة فيها؟! وهل سبقها عواء، وفي أي سياق، ومن كان الشهود على ذلك وما موقفهم؟ ومع أي طرف تعاطفوا؟!.

بعض الأخبار ما هي بأخبار، هي خليط من إشاعات وتخرّصات، ووساوس وأضغاث أحلام، وسقط الأوهام من حفنة ثرثارين يظنون أنهم من «المؤثرين»، أو عصبة من عطشى استجلاب الانتباه، أو استدرار التعاطف أو العطف من مرتزقة «اللايكات» أو الدولارات!.

تفعيل الرقابة، نعم الرقابة التي تملك الأدوات الكافية من الثواب والعقاب لتعديل السلوك أو ردع من تسوّل له نفسه بالإساءة، مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى. إشاعة الأمن والأمان وهي حقيقة راسخة متجذّرة، إنما هي تعزيز لثبات وديمومة بناء الوطن ومؤسساته والنهوض من المخاطر والتحديات المحيطة به بقوة واندفاع ومثابرة، لمواجهة تداعيات ما أمواج متلاطمة من الكوارث والأزمات امتدت عقودا.

ما زلنا نعاني -والإقليم كله- تبعات «النكبة والنكسة». وسقوط الشاه في إيران أو «إسقاطه». وحرب لبنان. وثلاث حروب في الخليج. وحربي أفغانستان والعراق. وعشرية «الربيع العربي» المزعوم المشؤوم. وما سبقها وتلاها من «فوضى خلّاقة». وتشطير وتشظي المقسم من ليبيا إلى اليمن مرورا بالصومال والسودان.

فأي عقل صحفي أو تحريري ذلك الذي يريد أن يشغل الرأي العام الأردني أو العالم بما فيه محبو الأردن والمتربصون به، في «أخبار» كان مصيرها سلة المهملات قبل زمن الفضائيات والمنصات، وتقريع قد يصل إلى التوبيخ العلني من رئيس التحرير المسؤول، إن التقطها محرر مبتدئ أو «متدرب أو زائر» لمناقشتها في اجتماع تحريري!.

هنا في واشنطن، أخبار يعلم الله بها يوميا، وكذلك في الخمسين ولاية، لا بل في كل مقاطعة فيها. أخبار كل ساعة بالآلاف، ترصدها نشرات محلية متخصصة بأخبار تعني مجمعات سكنية أو تجمعات أو جاليات أو اتجاهات وقوى في المجتمع المدني دون غيرها. تخيلوا إخوتي الكرام لو كان بين أولئك شهود يظنون في أنفسهم «الصحفي المواطن»، فتحدثوا عن «هوشة» بين سائق حافلة عمومية وراكب مخمور! أو «طوشة» بين متظاهرين في وسط بلدة نائية انقسمت فيه بين دعاة مقاطعة المنتجات المعدلة وراثيا والدعوة إلى حظرها قانونيا.. الأجدى طبعا هو الاهتمام بأخبار كالإغلاق الحكومي، أو طرد الصحفيين غير الملتزمين بقواعد وتعليمات الحساسية الأمنية من البنتاغون وهو قرار اتخذه الصحفيون أنفسهم، أو انتخابات عمدة نيويورك وحاكمة فيرجينيا لتقارب ما فيها من قضايا كبرى مع كل غيور على وطنه حريص على مجتمعه وأسرته.

من الآخر، هناك بعض الشهود من على بعض المنابر «الصحفية» ومنصات «التواصل» الاجتماعي يصطفّون بين فريقين لا علاقة لأي منهم بالصحافة الوازنة المهنية المسؤولة: فهم إما شهّاد زور والعياذ بالله، وإما تلك الشخصية التي أبدع في تشخيصها النجم العملاق عادل إمام بارك الله في عمره، «شاهد ماشفش حاجة». ولا قيمة أي يكون جميع أولئك الشهود مادة صحفية مقبولة تروج لأقوالهم -بمصادر وبلا مصادر عليمة أو محايدة- كونهم من فئة «شاهد عيان»! حضور مشهد من حكاية أو مسرحية لا يعني أبدا القدرة على روايتها فما بالك نقدها أدبيا أو فنيا؟!