حين تبهت القيم والعادات والتقاليد
د. ناصر ابورمان - إسطنبول
المحافظة على الإرث الأخلاقي والعادات الحسنة سبيل بقاء المجتمعات ونهضتها
في زمنٍ تتسارع فيه الحياة وتتبدّل المفاهيم وتشتدّ العزلة بين الناس، يبقى الإرث الأخلاقي والعادات والتقاليد الحسنة هو الحصن الذي يحمي المجتمعات من الانهيار، ويمنحها توازنها واستقرارها. فالأمم التي تفرّط في قيمها، وتستبدل أصالة المروءة ببرود المصلحة، تفقد تدريجيًا ملامحها الإنسانية، وتتحوّل إلى كيانات مادية بلا روح.
قال الله تعالى:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]،
﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]،
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: 8].
تلك الآيات الكريمة ترسم معالم الطريق، وتؤكد أن صلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وإعانة الفقراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست فضائل اختيارية، بل فرائض تحفظ تماسك المجتمع الإنساني وتمنع سقوطه في الفوضى الأخلاقية.
الإرث الأخلاقيوالاجتماعي … هوية الأمة وجذر وجودها
ليست العادات والتقاليد الحسنة مجرد ممارسات اجتماعية، بل هي ذاكرة الأمة ووجدانها الجمعي. فهي التي تغرس في الإنسان قيم التعاون والإيثار، وتربّيه على الكرم والحياء والتراحم. ولطالما كانت هذه القيم نبراسًا تهتدي به المجتمعات في أوقات الأزمات، ودرعًا يحميها من الانقسام والأنانية.
وحين يتخلى الناس عن هذه التقاليد، ويستبدلونها باللهاث وراء المادة والانكفاء على الذات، فإنهم يهدمون أركان إنسانيتهم. عندها يُستبدل الحب بالمصلحة، والرحمة بالبرود، والعطاء بالاستغلال، فيغدو القريب غريبًا، ويُنسى المحتاج في زحمة الجشع، ويُترك المظلوم يواجه مصيره وحده لأنّ الضمائر صمتت.
العادات والتفاليد الحسنة ليست عبئًا على الحاضر… بل زاده
من الخطأ أن تُفهم المحافظة على الإرث الأخلاقي على أنها عودة إلى الوراء أو انغلاق على الماضي، بل هي وفاء للأصل واستمرار للهوية. فالأمم التي تقطع جذورها، تفقد اتجاهها. إنّ ما ورثناه من قيم الآباء — من صلة رحم، ونجدة ملهوف، ومواساة فقير، ومساندة مظلوم — هو ما يمنح حاضرنا ثباتًا ومعناه.
وليس عيبًا أن نتمسك بعاداتنا، بل العيب أن نغترب عن ذواتنا، وأن نتنكر لما جعلنا يومًا مضرب مثلٍ في الشهامة والتراحم والإحسان. فالعادات الطيبة لا تُقيد الإنسان، بل تُهذّبه، ولا تعرقل التقدم، بل تحميه من أن يتحول إلى جمودٍ مادي لا يعرف القيم ولا الرحمة.
القيم لا تموت إلا إذا خُنّاها
إنّ الأمم لا تموت حين تضعف جيوشها أو يقلّ مالها، بل حين تخبو في قلوب أبنائها القيم التي صنعت مجدها. وحين يفقد الناس صلتهم بماضيهم، يضيع حاضرهم، لأنّ القيم التي ورثناها ليست مجرد ذكريات، بل نبض حياةٍ يجب أن يستمر في الأجيال القادمة.
فلنحافظ على ما بقي من نور الرحمة والمروءة فينا، ولنورّث أبناءنا ما ورثناه من صدقٍ وكرمٍ وشهامة، فإنّ من صان إرثه صان وطنه، ومن حفظ عاداته حفظ كرامته. وهكذا تبقى الأمة، كما أرادها الله، خير أمة أُخرجت للناس: تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.