بين الضرورة والقدرة: ما بعد حرب غزة
المحامي طارق ابوالراغب
ما بعد الحرب لا يشبه ما قبلها. فقد أعادت حرب غزة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة بأكملها، وفتحت الباب أمام مرحلة جديدة من التوازنات الدقيقة، حيث تتقاطع حسابات الأمن والسياسة مع ضرورات الإعمار والاستقرار. الجميع اليوم يقف أمام معادلة صعبة: كيف يمكن تحويل لحظة وقف النار إلى فرصة سياسية، لا إلى هدنةٍ مؤقتةٍ تمهّد لجولةٍ جديدة من الصراع؟
أولاً: مسارات ما بعد الحرب
تتعدد الطروحات التي تبحث في "اليوم التالي”، بين من يرى ضرورة فرض إدارة انتقالية في غزة، ومن يطالب بتمكين السلطة الفلسطينية بعد إصلاحها، ومن يدعو إلى إشرافٍ عربيٍّ مباشرٍ على مرحلة إعادة الإعمار. إلا أن جميع هذه السيناريوهات تصطدم بواقعٍ معقدٍ يختلط فيه الأمن بالسياسة، والشرعية بالميدان.
إسرائيل، التي خرجت من الحرب مثقلة بالخسائر العسكرية والسياسية، تبحث عن مخرجٍ يحفظ ماء وجهها دون الاعتراف بالفشل. وفي المقابل، تجد الأطراف العربية نفسها أمام تحدي إعادة صياغة الموقف الجماعي بما يوازن بين مصالح الأمن الإقليمي وضرورة حماية القضية الفلسطينية من التذويب أو التجزئة.
ثانياً: التحديات الإقليمية الراهنة
تواجه الدول العربية اليوم مجموعة من التحديات المتشابكة:
1. التهديدات الأمنية الممتدة: أي فراغٍ في غزة سيُترجم بتمدد جماعات مسلحة أو بعودة الاحتلال المباشر، ما قد ينعكس على الأمن في الدول المجاورة، خصوصاً مصر والأردن.
2. الضغوط الاقتصادية والسياسية: إعادة إعمار غزة تتطلب تمويلاً ضخماً، في وقتٍ يعاني فيه الإقليم من أزمات مالية متلاحقة.
3. المخاوف الديموغرافية والسيادية: طرح فكرة "الترحيل” أو "الإزاحة السكانية” ولو على سبيل النقاش، يثير هواجس حقيقية في دول الجوار التي تدرك أن مثل هذه السياسات قد تفتح أبواباً مغلقة منذ عقود.
ثالثاً: مستقبل الحكومة الإسرائيلية اليمينية
تعيش حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل لحظة اختبارٍ حقيقية. فالصمود الذي أبدته خلال الحرب لا يخفي الانقسام الداخلي، ولا يعالج اهتزاز الثقة في القيادة. ومع تزايد الاحتجاجات، وضغط الرأي العام الإسرائيلي لإيجاد حلٍّ لأزمة الأسرى والخسائر، تتزايد احتمالات سقوط الحكومة أو تفككها من الداخل.
فالمؤسسة العسكرية باتت تدرك حدود القوة، بينما يحاول السياسيون المتطرفون الإبقاء على خطاب المواجهة لحماية مواقعهم في الداخل. غير أن الواقع الجديد يفرض تحولات قد تُسقط الائتلاف القائم أو تجبره على تقديم تنازلات غير مسبوقة.
رابعاً: بين الضرورة والقدرة
الضرورة تفرض وقف الحرب وفتح أفقٍ سياسي واقعي، والقدرة تحدد من يستطيع تحويل هذا الوقف إلى مشروعٍ مستدام. الدول العربية تمتلك الآن فرصة لإعادة بناء دورها السياسي ضمن إطارٍ جماعيٍّ متماسك، لكن نجاحها يتوقف على ثلاثة عناصر أساسية:
1. الوضوح في الهدف: لا إعمار بلا حلٍّ سياسي، ولا تهدئة بلا ضمانات لرفع الحصار وعودة الحياة الطبيعية.
2. الاستقلال في القرار: رفض أي وصاية خارجية أو مشاريع "إدارة مؤقتة” تهمّش الإرادة الفلسطينية.
3. التكامل العربي: تنسيق المواقف بين الدول العربية الكبرى لتقديم رؤية موحدة تفرض نفسها على المجتمع الدولي.
خامساً: أفق المرحلة القادمة
المنطقة تدخل الآن مرحلة إعادة رسم الحدود السياسية والنفسية. فإسرائيل ليست كما كانت قبل الحرب، والفلسطينيون اكتسبوا شرعية مقاومةٍ لا يمكن تجاوزها، والعرب أمام اختبارٍ بين أن يكونوا شركاء في صناعة المستقبل، أو مجرّد متفرجين على خرائطٍ تُرسم بغيرهم ولغيرهم.
المعادلة النهائية تقول إنّ الضرورة السياسية تقتضي التغيير، لكن القدرة الواقعية على تحقيقه مرهونة بالإرادة، وبالقدرة على ترجمة الموقف العربي إلى سياسةٍ واضحةٍ ومستمرة.
ما بعد حرب غزة هو امتحانٌ للمنطقة بأكملها: بين من يريد أن يجعل من الخراب فرصةً لإعادة البناء، ومن يخشى أن تتحوّل الهدنة إلى استراحةٍ في حربٍ أطول.
الخيارات صعبة، لكن الطريق نحو الاستقرار يبدأ من قرارٍ شجاعٍ بأن تكون الكلمة للعقل لا للسلاح، وللحق لا للغلبة.
وهنا تتجلى مسؤولية العرب في أن يكونوا صوت الضرورة وقدرة الفعل، لا شهوداً على زمنٍ يُعاد تشكيله من دونهم.