من نكون لندين؟
بشار جرار
يجمع الدعاء «آمين» أحفاد سيدنا إبراهيم عليه السلام. كذلك يجمعهم -نظريا وافتراضيا- حبهم ومخافتهم وطاعاتهم لمالك «يوم الدين» الديّان وحده، لا شريك له. لكنهم تفرقوا ومعهم كثير من الأمم في استسهال الإدانة واستعجال الحكم والقضاء دون دليل أو بيّنة أو قرينة، رغم تحذير النصوص المقدسة من عقاب القاضي الظالم أو الجاهل، وعواقب من يرمي الناس بسوء، فما بالك بظن وتعميم مقيت، كأن يقال -حتى في الأخبار الصحفية- أن أحد سكان منطقة ما أو مسؤول أو موظف ما، قام بفعل كذا وكذا. هكذا ورفعا للعتب وتهربا من المساءلة القانونية، يظن ناشر منشور في الصحافة التقليدية أو الجديدة أن التعميم ينجي من غرامات التشهير وعقوباته والتي قد تصل في أعرق الدول الديموقراطية إلى حد السجن ودفع الملايين، تعويضا عن الإساءة المعنوية والنيل من سمعة فرد أو أسرة أو جهة ما، حتى وإن كانت اعتبارية.
أضرب مثالين من حدثين أمنيين مأساويين بفارق أسبوعين في أمريكا. الأول إطلاق نار أودى بحياة طفلين في قدّاس داخل كنيسة في قلب حرم مدرسي في ولاية مينيسوتا الأمريكية «الديموقراطية». والثاني كان الاغتيال السياسي الذي أودى بحياة أيقونة المسيحيين الإنجيليين، والمحافظين واليمينيين والجمهوريين وحركة «ماغا»، الناشط والمؤثر تشارلي كيرك بطلقة قناص في العنق، في حرم جامعي بولاية يوتا «الجمهورية».
لن أدخل في أجواء التفاعل الأمريكي أو الأردني مع الحدثين عبر منصات التواصل الاجتماعي، والتعليقات الواردة حتى في وسائل الإعلام التقليدية، ففيها كثير مما يثير الأسف والأسى، لكن اللافت في معظم التعليقات -باللغتين العربية والإنجليزية- هو ذلك الميل الغرائزي إلى الإدانة -تنديدا وتأييدا على حد سواء- دون الإبقاء على ما هو إنساني. الحياة أمر عظيم والأسرة كذلك، وهذا ما جمع الحدثين من حيث تفاصيل تتعلق بأسرتي الشابين المجرمين.
القاتلان في الجريمتين ضحيتا شحن وحشد من قبل دعاة اليسار المتطرف، اليسار المنحلّ المختل بكل ما تعنيه الكلمة. لكل منهما ظروف اجتماعية مريحة، حسنة السمعة بحسب المعارف والجيران، لكن الأهم ظروف غير طبيعية ساوت بينهما على الأرجح ، لا تغيب عنها المخدرات والأدوية -النفسية العقلية- غير الآمنة، وعوالم الانسحاب والانطواء والانسحاق الإلكتروني، بحيث صار كل منهما منفصلا عن محيطه العائلي والمجتمعي.
ثمة شواخص حمر كان لا بد من التنبّه إليها في الحالتين، قبل أن تصل الكراهية والعنف إلى جريمة القتل والإرهاب المحلي، بحيث تصادفت الجريمة الثانية صباح الأربعاء، عشية الذكرى الرابعة والعشرين لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر.
دمّر المجرمان القاتلان أسرتيهما. العبء النفسي الأكثر إيلاما هو ما يشعره والدا المجرمين-الضحيتين في آن واحد. الأول ظن نفسه «أنثى» وقامت أمه -مجاراة أو مجبرة- باستصدار أمر محكمة في ولاية يسارية بهذا الخصوص، حاكمها كاد أن يصير نائبا للرئيس لو فازت النائبة السابقة كمالا هاريس. في المقابل، قام والد المجرم الثاني بتسليمه بنفسه وهو رجل أمن متقاعد إلى مكتب التحقيقات الفدرالي «إف بي آي»، مستعينا بصديق صديق للعائلة، قسيس محلي ورجل أمن فدرالي.
غابت تلك الأبعاد الأسرية والإنسانية عن كثير من التعليقات والتحليلات، فالجميع يدين الجميع، وكأنه حفل هستيري تعلو فيه الشتائم ويطفو فيه الهمز واللمز. لا فرقَ في الثقافات ولا صراعَ في حضارات! الكل يظن نفسه فوق القانون وفوق الشبهات، ويستسهل لعب دور المحقق والمدعي العام والمحامي والقاضي، ويجمع من حوله بعلو الصوت والتلاعب العاطفي جماهير غفيرة حقيقة وافتراضية للمشاركة في توزيع الاتهامات والإدانات في الاتجاهات كلها، إلا من رحم ربي.
لم أكن لأتخيل أن الجهل بثقافة الآخر أو معاداته لأي اعتبار كان، أو على أي أرضية كانت، تصل إلى اعتقاد البعض -وليسوا قلة للأسف- بأن أبا يقوم بتسليم رقبة فلذة كبده للإعدام نظير مئة ألف دولار مكافأة الإف بي آي! كان الله في عون ذلك الأب، والأم وإخوة قاتل تشارلي كيرك، فأي قرار مؤلم هذا الذي يتخذه الأب ويتمكن فيه من إقناع زوجته -أم المجرم- وإخوته الشباب بأن الواجب الروحي والأخلاقي والوطني يقضي بتقديم فتى في الثانية والعشرين من عمره إلى يد العدالة، وعمليا إلى فرقة الإعدام بالرصاص بحسب القانون المعمول به في ولاية يوتا، إحدى أكثر الولايات الأمريكية أمنا وودا وسخاء بالتبرعات الخيرية داخل أمريكا وخارجها، ولاية تعتبر من معاقل طائفة المورمونز المعروفة اختصار ب «إل دي إس» الذين يتبعون «كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة».
من السهل الانقسام حول إرث الراحل تشارلي كيرك الذي قتل على الهواء مباشرة خلال مناظرة جماهيرية ميدانية في جولة على الجامعات الأمريكية، البعض لم ير فيه سوى صانع فوز ترمب بولاية ثانية، من حيث استمالته أصوات الشباب والطلبة في عدد من الولايات المتأرجحة خاصة ولايته أريزونا، لكن من اللائق أو بالأحرى الواجب عدم نزع إنسانية الإنسان من حدث جلل على هذا المستوى السياسي والإنساني، كالتفكير في أسر عانت بشكل مباشر مما جرى، تماما كما نتألم ونتعاطف مع ضحايا كوارث بشرية وطبيعية في ساحات أخرى قريبة من أسرنا وأوطاننا أو بعيدة عنا افتراضيا!