خبير يكشف المعادلة المفقودة في بلدياتنا
المعادلة المفقودة في بلدياتنا
أسامة محمد العزام
كشف مدير عام بنك تنمية المدن والقرى الاسبق اسامة العزام سر المعادلة المفقودة في بلدياتنا ونحن امام استحقاق تعديل قانون الادارى المحلية وقال :ـ إن الحديث المتكرر عن أداء بلدياتنا، والشعور العام بأنها لا تلبي طموحات المواطنين، قد وصل إلى مرحلة مقلقة؛ حتى بات البعض يطرح حلولاً جذرية تصل إلى حد المطالبة بحل المجالس المنتخبة أو تعيين رؤساء البلديات. وهذا توجه خطير يتعارض مع مسار التحديث، ويقوض أحد أهم أركان الممارسة الديمقراطية، وهو ما يستوجب رفضه من حيث المبدأ. إن البديل الحقيقي ليس في هدم المؤسسة، بل في إعادة تصميمها من الداخل لجعلها أكثر قوة وكفاءة ومناعة.
المشكلة التي تعاني منها مؤسساتنا البلدية ليست في مبدأ الديمقراطية، بل في صميم الآلية التي تعمل بها.
لقد حمّلنا المسؤول المنتخب، الذي يُفترض أن يكون صوت الناس وواضع التوجهات الكبرى، مهاماً فنية وتنفيذية معقدة. أجبرناه على الغوص في تفاصيل الإدارة اليومية، فأصبح دوره مشتتاً بين مسؤولياته في رسم الرؤى ومتطلبات الإدارة التنفيذية. وبهذا، حُرِم المُنتخب من فرصة التفرغ للتخطيط الاستراتيجي، وحُجب المجال عن الفني المختص ليدير العمل بكفاءة واستقلالية. إن هذا الخلط في الأدوار هو الثغرة الحقيقية التي تستنزف طاقة بلديات?ا وتجعلها عرضة للنقد.
إن تحصين مجالسنا المنتخبة وتمكينها من النجاح يكمن في تطبيق فلسفة إدارية جوهرها الفصل الواضح بين الأدوار، وذلك من خلال تفعيل منصب "المدير التنفيذي" وتعزيز صلاحياته. الفكرة الجوهرية هي خلق معادلة متكاملة من الحكم الرشيد؛ فالمجلس المنتخب هو البوصلة التي تحدد الاتجاه، فهو يمثل إرادة الناس، ويقرّ الخطط الكبرى، ويمارس دوره الرقابي الأصيل.أما المدير التنفيذي، فهو المحرك الذي يدفع عجلة العمل البلدي نحو وجهتها بكفاءة واقتدار. دوره يتجاوز بكثير مجرد الإدارة التقليدية للموظفين؛ فهو العقل التنفيذي الذي يترجم رؤى المجل? الواسعة إلى خطط عمل واقعية ذات جداول زمنية وموازنات محددة. هو من يضمن الانضباط المالي، ويشرف على إعداد العقود والعطاءات وفقاً لأعلى المعايير الفنية، ويبحث باستمرار عن سبل لتحديث الخدمات وتحسين جودتها. إنه المسؤول عن بناء جهاز إداري فعال وقياس أدائه، وفي النهاية، هو الذي يقدم تقاريره للمجلس، ليكون مسؤولاً أمامه عن كل جانب من جوانب التنفيذ.
بهذه الشراكة بين قيادة منتخبة تضع الرؤية وتضمن سلامة المسار، وإدارة محترفة تنفذ وتبتكر، نصل إلى نموذج عمل يحقق الإنجاز ويستحق ثقة المواطنين. وخلافاً لأي مخاوف قد تُطرح، فإن هذا النموذج لا يضعف سلطة المجلس المنتخب، بل على العكس، يعززها ويعيدها إلى مجالها الصحيح، فهو يمنحه الأدوات اللازمة لمحاسبة الجهاز التنفيذي بأكمله، على أساس الأداء والنتائج الملموسة.
وهنا، يتحرر رئيس المجلس البلدي وأعضاؤه من تحمل مسؤولية الأخطاء الفنية، ليتفرغوا لمهمتهم الأسمى، وهي الاستماع للناس والتخطيط لمستقبل مدينتهم وممارسة دور رقابي حقيقي وفعال. إن هذا النموذج لا يلغي دور القيادة المنتخبة، بل يعيد إليها جوهرها ومكانتها الحقيقية.
يكمن الفارق الجوهري بين المعالجات المؤقتة والإصلاح الحقيقي في مدى الإرادة لتبني هذا الفصل الواضح في الأدوار، فهذا هو المسار الفعلي للارتقاء بالإدارة المحلية وتعزيزها. حين تصبح بلدياتنا أكثر كفاءة واستجابة، وتُترجَم إنجازاتها على أرض الواقع، فإنها تبني ثقة شعبية واسعة تكون هي أساسها المتين ومصدر قوتها الحقيقي.
إننا نقف اليوم على مفترق طرق حقيقي؛ فإما أن نترك مؤسساتنا الديمقراطية المحلية ضعيفة وعرضة للانهيار، أو أن نمضي في مسار تمكينها بالأدوات التي تجعلها قوية وناجحة ومستحقة لثقة الناس. ولتحقيق هذا الهدف الأخير، يجب أن يتركز عملنا في المرحلة القادمة على بناء قانون جديد يكرّس معادلة الفصل بين الأدوار، ويضع آليات شفافة لاختيار مديرين تنفيذيين محترفين، ويمنح المجالس المنتخبة الصلاحيات والأدوات اللازمة لممارسة رقابة حقيقية وفعالة