المولد النبوي وواقع الأمة بعد 15 قرناً

بقلم- يونس الكفرعيني

تمرّ الذكرى العطرة لمولد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن في قلب مشهد تاريخي شديد التعقيد، يختلط فيه الحزن بالأمل، والخذلان بالرجاء، والانكسار بالحنين إلى فجر جديد. مولد النبي لم يكن حدثاً عادياً في تاريخ البشرية، بل كان انعطافة حاسمة غيّرت مسار الإنسانية، وبدّلت وجه الأرض، وأخرجت الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. واليوم، ونحن على مشارف مرور ألف وخمسمائة عام على ميلاده الشريف، ونحو ألف وأربعمائة وستين عاماً على بدء دعوته المباركة، نجد أنفسنا أمام أسئلة كبرى: أين نحن من الرسالة؟ وكيف صرنا إلى ما نحن فيه؟

لقد جاء مولد النبي صلى الله عليه وسلم في زمن تكسّرت فيه قلوب العرب بين جهلٍ وفوضى، وصراعات قبائل، وظلم سادةٍ لأقوامهم، وغربةٍ روحية أطبقت على القلوب. كان العالم حينها يغرق في ظلام الشرك والظلم والجهالة، حتى أذن الله أن يولد الهادي الأمين، في لحظة احتاجت فيها الأرض إلى النور، واحتاج الإنسان إلى المعنى. فكان مولده بداية عهدٍ جديد، وبعثته انقلاباً شاملاً في القيم والموازين.

غير أنّ المفارقة الموجعة، أننا اليوم بعد قرون من ذلك الفتح العظيم، نقف أمام واقعٍ يشي بالخذلان. أمتنا الإسلامية والعربية، التي حملت مشعل الهداية، وأضاءت للإنسانية طرق العلم والحضارة، تعيش في حالة من التشرذم والضعف، تتقاذفها الأزمات، وتنهشها الحروب، وتستبيحها القوى الغاشمة. غزة تنزف كل يوم دماء الأبرياء، وأصوات الاستغاثة تتعالى في فلسطين، فيما تتناوب على الأمة صدمات الانقسام والفوضى في أكثر من بلد عربي وإسلامي.

ألم يكن مولد النبي، وبعثته، رسالة واضحة بأن النهضة لا تكون إلا بالوحدة والترابط والتمسك بالقيم؟ ألم يكن أول ما بناه صلى الله عليه وسلم هو "المجتمع"، مجتمع قائم على الأخوة، على الإيثار، على القوة الجامعة التي تجعل الضعيف قوياً بالغني، والفقير غنياً بالعطاء، واليتيم مصوناً بالرحمة؟

اليوم، نكاد ننسى تلك الدروس، فنركض وراء الفرقة، ونغرق في النزاعات الهامشية، ونقدّم مصالحنا الضيقة على مصلحة الأمة. كأننا لم نسمع قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

إن غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل هي مرآة تعكس حقيقة حالنا جميعاً. هي تختصر ضعف الأمة وتخاذلها، كما تختصر أيضاً صمودها وقدرتها على البقاء رغم القهر. غزة تصرخ في وجوهنا: لقد تركتم وصايا النبي، أهملتم قوة الجماعة، تناسيتم أن النصر مع الصبر، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

إن المولد النبوي الشريف ليس مناسبة للاحتفالات الشكلية فقط، ولا يوماً للتغني بالشعر والمدائح دون وعي. إنه محطة لمراجعة الذات، لاستحضار قيم الرسالة، لإعادة النظر في واقعنا. فكيف يُعقل أن تمرّ خمسة عشر قرناً على المولد الشريف، ولا تزال أمتنا عاجزة عن بناء مشروع حضاري متماسك، فيما أمم أخرى كانت في ظلمات الجهل، فأخذت بأسباب القوة والعلم حتى سيطرت على مقدرات العالم؟

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معلماً للبشرية كلها أن النهضة تبدأ بالفكرة والإيمان، وأن الإصلاح يبتدئ من القلوب قبل أن يُترجم إلى واقع. فحينما استجاب الصحابة لنداء الرسالة، تبدّلت حياتهم، وصاروا من رعاة غنمٍ إلى قادة أمم. لم يكن لديهم مال وفير ولا عتاد عظيم، لكن كان لديهم الإيمان العميق، والوحدة الصادقة، والعقيدة التي جعلت حياتهم ثمناً للحق.

فأين نحن من ذلك كله اليوم؟ أين نحن من الصدق في الالتزام؟ أين نحن من التضحية من أجل الأمة؟ أين نحن من بناء العلم والمعرفة؟

إن الحروب التي تمزق بعض بلداننا العربية والإسلامية ليست قدراً مكتوباً لا مهرب منه، بل هي نتيجة مباشرة لتخلينا عن تعاليم النبي. لقد أوصانا بالوحدة، فإذا بنا نتناحر. أوصانا بالعدل، فإذا بنا نمارس الظلم على بعضنا. أوصانا بالعلم، فإذا بنا نغفل عنه ونُسلّم قيادنا للجهل والتبعية.

إن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان ولا يزال الملاذ الوحيد لنهضة الأمة، شرط أن نرجع إليه بوعيٍ لا بعاطفة فقط، وبإرادة تغييرٍ لا بمناسبات شكلية. لقد علّمنا أن الحضارة لا تُبنى على الصراعات الداخلية، وإنما على البناء المشترك. علّمنا أن العزة لا تُنال بالتبعية، وإنما بالاعتماد على الذات، وبالثقة بالله، وبالعمل الجاد.

اليوم، ونحن نرى أشلاء الأطفال في غزة، وصرخات الثكالى في المخيمات، ودموع الأيتام في المخافر البعيدة، يجب أن نسأل أنفسنا: ماذا لو عاد النبي بيننا اليوم، هل يرانا أمة كما أراد؟ هل يرانا جسداً واحداً، أم يرى أجساداً متفرقة؟ هل يرانا حملة للرسالة، أم أسرى للمصالح الضيقة؟

لقد مرّ على بدء الدعوة 1460 عاماً، لكن جوهر الرسالة لم يتغير: التمسك بالحق، والعدل، والرحمة، والقوة الجامعة. فما بالنا نضيّع الطريق؟

إن الأمة التي تريد النهضة لا بد أن تعود إلى القيم التي وُلد بها محمد صلى الله عليه وسلم، القيم التي قامت عليها المدينة المنوّرة: الأخوة، الشورى، نصرة المظلوم، محاربة الفساد، احترام العلم، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة. هذه ليست شعارات، بل هي أسس حضارية أثبت التاريخ فعاليتها متى تمسكنا بها.

فإذا أردنا أن يكون المولد النبوي لحظة انطلاقة جديدة، فلنجعل منه بداية عهدٍ جديدٍ مع أنفسنا، نعاهد فيها الله ورسوله أن نكون على قدر الأمانة. الأمة لا تنهض بالخطب وحدها، ولا بالاحتفالات، وإنما بالعمل الجماعي، بالعلم، بالإنتاج، بالصبر، وبالثقة بأن المستقبل بيد الله لمن استقام على أمره.

نعم، لقد آن لنا أن ندرك أن حالنا لن يتغير ما لم نغيّر ما بأنفسنا، كما قال الله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

إن مولد النبي هو نداء متجدد لكل جيل: عودوا إلى الحق، عودوا إلى الوحدة، عودوا إلى قيم العدل والرحمة، وإلى القوة التي تحفظ كرامة الأمة. عندها فقط، ستكون ذكرى المولد الشريف ليست مجرد طقس سنوي، بل بداية نهضة حضارية جديدة.

وما غزة اليوم إلا جرس إنذار، يذكّرنا أن الأمة إذا لم تكن قوية بترابطها، فإنها ستكون لقمة سائغة لأعدائها. وما فلسطين إلا امتحان أخلاقي، يفضح زيف شعاراتنا، ويضعنا أمام مرآة الحقيقة. وما الحروب الداخلية إلا نتيجة لغياب الوعي الديني العميق الذي جاء به النبي.

فلنقف اليوم أمام هذه الذكرى العظيمة وقفة صادقة، ولنجعل من ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ميلاداً جديداً لنا كأمة. ولنسأل أنفسنا: هل نستحق أن ننتمي إلى أمة محمد؟ أم أننا اكتفينا بأن نحمل اسمه دون أن نطبّق رسالته؟

إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد مصيرنا، وهي التي ستصنع مستقبلنا.