خدمة العلم… صناعة رأس مال وطني
المحامي سلطان نايف العدوان
إعلان إعادة تفعيل خدمة العلم يشكّل محطة تأسيسية، لكنه من منظور أوسع ليس مجرد برنامج تدريبي؛ هو مشروع قومي يعيد صياغة رأس المال الوطني.
ولعل دلالة القرار تزداد عمقًا حين جاء الإعلان مباشرة من سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ليؤكد أن خدمة العلم ليست واجبًا مؤقتًا، بل مشروعًا وطنيًا متكاملًا برعاية القيادة، يضع الشباب في قلب معادلة المجتمع والاقتصاد والأمن معًا.
ومن هذا المنظور, الرؤية الأعمق تقوم على إدماج الخدمة في المسار التربوي منذ سنوات مبكرة، بحيث تصبح المدرسة شريكًا مباشرًا في غرس قيم الانضباط والعمل الجماعي والإسعاف الأولي وحب الوطن، للذكور والإناث على السواء.
عندما ينشأ الطالب وهو يمارس هذه القيم بشكل تدريجي، تصبح تجربة خدمة العلم لاحقًا امتدادًا طبيعيًا لحياته الدراسية، لا قفزة مفاجئة بين مقعد الدرس والطابور الصباحي الى المعسكر.
الأردن يستطيع أن يجعل من الخدمة الوطنية منصة إنتاجية، تمنح الشباب شهادات واعتمادات مهنية مصغّرة في مجالات عملية يحتاجها الاقتصاد والمجتمع: الإسعاف، السلامة المهنية، إدارة الفرق، والاستجابة للطوارئ.
من المنطق ان دمج هذه الشهادات في ملفهم الوظيفي والأكاديمي ستمنحهم قيمة مضافة، وتحوّل الخدمة إلى رصيد شخصي ووطني في آن واحد.
إن هذا القرار يفتح الباب لتأسيس سجلّ احتياط وطني ذكي، مصنّف وفق الاختصاصات المدنية والعسكرية، وجاهز للتعبئة خلال ساعات. وبذلك يتحوّل كل خريج خدمة علم إلى جزء من منظومة أمان جماعي يمكن استدعاؤها عند الحاجة لإدارة الأزمات والكوارث.
وقد أثبتت الأحداث العسكرية الأخيرة في المنطقة أن النسبة الأكبر من الهجوم لم تكن ميدانية بقدر ما كانت عبر منصات التواصل الاجتماعي. ومن هنا تتضح أهمية تحويل حيوية جيل التيك توك إلى قوة إيجابية وواعية، تساهم في الدفاع عن الأردن ميدانيًا ورقميًا، ليصبحوا جيلًا مؤثرًا في صناعة الوعي الوطني بقدر تأثيرهم في فضاءات العالم الافتراضي.
كذلك إحدى القفزات النوعية الممكنة تكمن في ربط الخدمة بعقود مسبقة مع قطاعات تحتاج إلى انضباط وتشغيل دوري، كالطاقة والنقل والتشغيل الصناعي. هنا يمكن للخدمة أن تصبح بوابة تشغيل فعلي، لا مرحلة انقطاع، حيث يخرج الشاب من التجربة إلى وظيفة، وتصبح الشركات بدورها شريكًا في المشروع الوطني، مدعومة بحوافز واضحة.
التجربة لن تكتمل من دون تمرين وطني شامل في كل دورة، يجمع الجيش والدفاع المدني والصحة والبلديات في محاكاة واقعية لطوارئ محتملة. هذه التمارين ستبني ذاكرة جماعية وقدرة تعاونية نادرة في المنطقة، وتزيد من سرعة الاستجابة الوطنية لأي أزمة.
البعد الآخر يكمن في شمول المرأة، ليس فقط كشريك رمزي بل كقوة فاعلة في مسارات مدنية عالية الأثر: غرف الطوارئ، النظم المعلوماتية، الأمن السيبراني، والقطاع الصحي. إشراك النساء في هذه المسارات منذ البداية سيمنح الأردن ميزة حضارية، ويزيد من عمق رأس المال الاجتماعي.
كل هذا يمكن أن يُبنى على نظام نقاط وامتيازات ملموسة، يمنح خريج خدمة العلم أولوية في التعيين، أو القبول في برامج جامعية نادرة، أو تخفيضات على رسوم شهادات مهنية. عندها تصبح الخدمة رصيدًا تراكميًا في حياة الشاب، يحمله معه في مساره التعليمي والمهني.
وعندما تتشكل شبكة خريجي خدمة العلم، تتحول التجربة إلى قوة اجتماعية متجددة، قادرة على رواية قصص نجاح حقيقية، وقياس الأثر في سوق العمل وفي المجتمع. هذه الشبكة إذا أُديرت بذكاء ستصبح مرآة حية للقيمة المضافة التي قدمها البرنامج، وتغذي قرارات التطوير والتحسين بالبيانات الواقعية.
بهذه الأبعاد، يظهر القرار كأكثر من استجابة سياسية أو أمنية؛ هو صياغة جديدة لعقد اجتماعي يقوم على فكرة أن الاستقرار لا يبنى فقط بالجنود، بل بالقيم المتراكمة في نفوس المواطنين. خدمة العلم تتحول هنا من واجب مؤقت إلى مشروع حضاري طويل الأمد، يربط البيت بالمدرسة بالجيش، ويمنح الأردن قوة داخلية لا تضاهيها أي معادلة خارجية.
حفظ الله الأردن قيادةً وشعبًا وجيشًا عربيًا راسخًا في قلوب أبنائه، سندًا للوطن، وعزًا للأمة.
المحامي سلطان نايف العدوان
٢٥-٨-٢٠٢٥