رؤية تشريعية متكاملة لهيئة إعلام عصرية تنهض بالأردن

المحامي مهند النعيمات 

يشهد العالم اليوم تحولات عميقة في المشهد الإعلامي، حيث تتسارع ثورة الاتصالات الرقمية لتفرض تحديات غير مسبوقة وتفتح آفاقاً واسعة للتطوير والابتكار. وفي خضم هذا التحول، يقف الأردن أمام مفترق طرق حاسم: إما التمسك بنماذج تقليدية أثبتت محدوديتها، أو تبني رؤية جريئة تجعل الإعلام شريكاً أساسياً في مسيرة التنمية والاستقرار. إن إعادة بناء هيئة الإعلام في الأردن لم تعد إجراءً إدارياً فحسب، بل هي استثمار استراتيجي في المستقبل، يتطلب رؤية متوازنة تنطلق من الواقع التشريعي وتسعى إلى تطويره عبر محاور متكاملة تجمع بين الشفافية والتنظيم الرقمي ودعم المحتوى الوطني.

إن بناء الثقة بين المؤسسة الإعلامية والجمهور يبدأ بترسيخ الشفافية كنظام مؤسسي وقانوني، بحيث تُنشر جميع القرارات ومبرراتها القانونية ووثائق الدعم عبر منصة رقمية متاحة للجميع خلال 24 ساعة، الأمر الذي يضمن المساءلة ويوفر مرجعية واضحة للقطاع. ولتعزيز هذا النهج، لا بد من وجود لجنة استشارية دائمة من خبراء القانون والإعلام تتولى تفسير القرارات المعقدة وتقديم التوصيات، مع تطوير آليات المحاكم الإدارية لسرعة البت في الطعون الإعلامية وضمان حماية حقوق المشاريع. كما أن إصدار تقارير دورية عن أداء الهيئة ونتائج الطعون ومؤشرات حرية الإعلام يقدّم صورة دقيقة وشفافة عن واقع القطاع.

وفي الوقت الذي أصبح فيه الإعلام الرقمي الساحة الأوسع لتبادل الأفكار والمعلومات، فإن التعامل معه بأدوات تشريعية قديمة سيؤدي إلى التراجع وضياع فرص الابتكار. من هنا، تبرز الحاجة إلى تحديث التشريعات لتشمل الإعلام الرقمي بمرونة، مع معايير تراعي حجم التأثير وطبيعة المحتوى وتسمح للمشاريع الصغيرة بالنمو بعيداً عن الأعباء التنظيمية المبالغ فيها. ويمكن تحقيق ذلك عبر منح تراخيص تجريبية للمشاريع الرقمية الناشئة، وتركيز الجهود التشريعية على حماية البيانات الشخصية ومكافحة خطاب الكراهية والتضليل الإعلامي، مع ضمان عدم استخدام هذه الأهداف لتقييد حرية الرأي. كما يتطلب الأمر تعزيز التعاون مع شركات التكنولوجيا العالمية لفهم البيئة الرقمية ومتطلباتها بشكل أعمق.

ولا يكتمل أي مشروع إعلامي دون بيئة داعمة للإنتاج المحلي، إذ يمثل المحتوى الوطني محركاً ثقافياً واقتصادياً يعزز الهوية ويرتقي بقدرات المجتمع. ولتحقيق ذلك، ينبغي إنشاء صندوق مستقل لدعم الإنتاج الإعلامي الجاد يمنح التمويل للمشاريع المبتكرة التي تعكس طموحات الشباب وقضايا المجتمع، إلى جانب إطلاق مراكز تدريب إعلامي في المحافظات بالشراكة مع الجامعات لتأهيل الكفاءات المحلية. كما أن تقديم حوافز ضريبية وتسهيلات جمركية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وتبسيط إجراءات الترخيص عبر مسارات سريعة ومتطلبات معلنة مسبقاً من شأنه أن يزيل العقبات البيروقراطية ويشجع المبادرات الجديدة.

إن الأردن اليوم بحاجة إلى نموذج إعلامي جديد وهيئة إعلام تكون شريكاً أصيلاً في الاستقرار والتنمية، رؤية متوازنة تتطلب جرأة في تجاوز البيروقراطية القديمة وثقة بقدرات الشباب على الإبداع والابتكار. وفي عالم رقمي سريع الإيقاع، فإن تبني إعلام حر ومسؤول هو رسالة واضحة بأن الأردن جاد في بناء إعلام حديث يحمي حرية الرأي ويعكس تطلعات الأمة، ليكون ركيزة للتقدم ونافذة مشرقة على المستقبل.