إدارة بلا مسرح… ومسرح بلا جمهور

فراس زقطان 

الإدارة الثقافية في المسرح العربي، خارج الحسابات تماماً. أحد مديريها، الذي فضّل عدم ذكر اسمه (لأنه يعرف أن أحداً لن يسأل)، اشتكى من قلّة الدعم، وهو جالس في مكتبه المكيّف يراجع خطة "تطوير المشهد المسرحي" للمرة العاشرة هذا العام. لا يتحدثون هناك عن تدريب الممثلين أو تحديث قاعات العرض، بل يواصلون إنتاج أوراق عمل واجتماعات مصوّرة، كما لو أن الوثيقة في ذاتها عرض مكتفٍ بذاته، بديكور خشبي يصلح لكل المناسبات.

المفاوضات في هذا السياق ليست حول تطوير البنية التحتية أو دعم الفنانين، بل حول توزيع النفوذ داخل المكاتب المغلقة، حيث ينشغل المسؤولون بإعادة ترتيب الكراسي أكثر من ترتيب الأفكار. تتحول الإدارة إلى فردوس بيروقراطي صغير، تُستعمل فيه الخطط والبيانات كذريعة للبقاء، وتبرير كل شيء من سوء التنظيم إلى تحييد النقد، وتجاهل الجمهور، وصولاً إلى تفكيك ما تبقى من الصلة بين المسرح والناس.

المحيط الثقافي العربي لا يبدو منتبهاً إلى ما يحدث، والعالم مشغول بالذكاء الاصطناعي، بينما الإدارة الثقافية مشغولة بـ"الذكاء البروتوكولي" في إعداد التقارير والتقاط الصور الرسمية. تحت هذا الضوء يتحرك الممثلون الشباب، لكنهم يجدون الوقت لملء استمارات المشاركة أكثر مما يجدونه على الخشبة.

هذه ليست موجة تحديث، ولا حركة إصلاح، بل موجات فردية يائسة من عروض صغيرة على مسارح المدارس والمراكز الثقافية، تصعد بقوة إلى السطح للحظة قصيرة، قبل أن تُطفأ أنوارها لأن فاتورة الكهرباء لم تُسدّد. هي "شيء" تراكم عبر سنوات من الخذلان الثقافي، يواجه الإهمال، والمحسوبية، والرغبة العارمة في البقاء ضمن منطقة الراحة البيروقراطية.

ومع كل هذا الركام الإداري، لا بد من الاعتراف بوجود مبادرات جادة تقف في الضفة الأخرى من المشهد، مثل مهرجان المسرح الحر، الذي يحاول منذ سنوات أن يثبت أن الخشبة ليست مجرد مساحة للديكور الرسمي، بل فضاء للفن الحيّ. هذه المبادرات لا تملك موازنات تكفي لتغطية تكاليفها، لكنها تملك ما هو أخطر: جمهور صغير لكنه وفيّ، ونصوص تجرّب، وعروض تحترم ذكاء المشاهد. ومع ذلك، فإنها تدفع ثمن جديتها مرتين: مرة في قلة التمويل، ومرة في محاولات الإقصاء من دائرة الضوء، لأن الضوء مخصص للمشاريع التي تعرف كيف تتقن البقاء في الدوائر الرسمية.

تحت هذا الضوء يمكن أن نقرأ المشهد المسرحي العربي بأدوات قياس مختلفة تماماً عن القراءة الرسمية، أشبه بصوت مرتجل في مواجهة التجاهل المؤسسي والثرثرة النقدية المموّلة. قراءة تشترط أولاً التخفف من البلاغة الخشبية التي تكرر: "المسرح أبو الفنون"، بينما الفنون نفسها تطلب اللجوء في قاعات السينما والموسيقى. والأهم، التخفف من الاعتماد المَرَضي على موظفي الحكومة في إدارة وتشغيل النشاط المسرحي، لأن الفن الذي ينتظر إذن الصرف وإجازة الدوام لن يستطيع اللحاق بالحياة التي تجري خارجه.

في المسرح العربي… الإدارة نحو أقصاها، لكن ليس نحو الإبداع، بل نحو أقصى درجات القدرة على إنتاج بيان ختامي مكتوب بعناية، لا يُقرأ إلا في الاجتماع القادم.