النكبة المُؤدّاة: عن مسرحية لا تنتهي

فراس زقطان

من بين كل ما هو مؤلم ومستعجل ودامٍ في فلسطين، يبدو أن المسرح – وبعضه فقط – قد وجد في النكبة فرصة ذهبية لاختبار قدرة الخشبة على كسب التعاطف قبل أن تُكسب المعنى.
إذ تحوّلت النكبة، في بعض العروض، من مأساة تاريخية مفتوحة إلى مادة مؤدّاة بحرفية آمنة، تُعرض، وتُكرر، وتُعاد في أماكن تبحث عن أعمال "ملتزمة"، دون أن تُكلّف الفنان عناء الجدل أو الصدام أو المغامرة.
فلسطين هنا ليست وطنًا مستباحًا، بل مجاز درامي صالح للتكرار.
ليست أرضًا تُباد، بل لوحة تُعرض.
ليست تاريخًا مكسورًا، بل مونولوجًا قابلًا للتصفيق.
هكذا تتحوّل النكبة، لا إلى صدمة أخلاقية، بل إلى منتَج مسرحي متداول، يصلح لإثارة الحزن المبرمج في قلوب الجماهير، ويصلح أكثر لتعبئة استمارة المشاركة تحت خانة (قضايا حقوق الإنسان)".
النكبة المُؤدّاة ليست خيانة. لكنها ليست أيضًا مقاومة.
إنها تلك المنطقة الرمادية التي يقف فيها بعض المسرحيين، بين رغبتهم في قول شيء كبير، وعجز أدواتهم عن حمل فداحة المعنى.
فيضعون فلسطين على الطاولة، كما توضع شمعة على الركح، ثم يبدأ العرض.
في هذا النوع من الأعمال، لا نحتاج إلى رؤية إخراجية ولا إلى لغة حركية.
يكفي "أن تقول غزة"، حتى تشتغل ماكينة التعاطف.
تكفي صورة مخيم أو صوت طائرات، حتى يقتنع الجمهور أن ما يشاهده هو فن مقاوم.
لكن الحقيقة أن بعض هذه العروض لا تقاوم إلا فكرة الإبداع نفسها: تقف عند حدود التكرار، وتراهن على مضمونها السياسي بدلًا من بنائها الفني.
لا يخرج المشاهد من العرض محمّلًا بأسئلة، بل مُعفى من التفكير.
الفن يتحول إلى بديل إنساني عن الموقف. يُمنح المسرحي صكّ براءة لأنه "تناول فلسطين"، حتى لو لم يقدّم أكثر من ملصق ترويجي مغلف بالحزن .
و لكن هناك أعمال لا تُؤدّي النكبة، بل تتداخل معها وتتورط بها.
في عروض غنام غنام، لا تمثيل بالنيابة عن الفلسطيني، بل تمثيلٌ صادق للفلسطيني نفسه، الذي ينقل ذاكرته إلى المسرح كما يُنقل جثمانٌ في ليل طويل  و( في سأموت في المنفى ) , لا نسمع رواية عن المخيم، بل همسًا من داخله.
لا يُروى التاريخ كأرشيف، بل يُفتح كجرح.
غنام لا يُبشّر بالقضية، ولا يشرحها، بل يعيشها فنيًا، بجسد واحد، وصوت واحد، في مواجهة جمهور كامل.
لا كوفية للزينة، ولا علم في الخلفية. كل شيء في عرضه يقول: أنا هنا. هذا وجهي. وهذه فلسطين كما أعرفها، لا كما تريدون تصفيقها.
خيل تايهة من إخراج إيهاب زاهدة، فنموذج آخر لهذا المسرح الجذري الذي لا يطلب التصفيق، بل يُحرج المتفرج.
العرض لا يعرض القضية، بل يعرض ارتباكها، وأحزانها المتعددة، وخيباتها المتراكمة.
الخيل في العنوان ليست شعارًا نبيلًا، بل سؤال وجودي: أين الفارس؟ من أين نبدأ؟ وكيف نُهشّم التيه؟
بتلك النبرة الماكرة التي تُشبه التذكير أكثر من الوعظ، يجد عند زاهدة تحققه البصري الصارم: لغة جسد، فراغ مسرحي قاسٍ، ضوء خافت لا يخفي شيئًا، وحوارات تعيد صياغة المسلّمات دون خوف. العرض لا يستثمر فلسطين، بل يتّهم الجميع بخذلانها
و من غزة تأتي مونولوجات غزة هذا المشروع .
 الذي وُلد في قلب الدمار، لا في هوامش الأمان.
هنا لا ممثلون محترفون يعيدون تمثيل الفاجعة، بل شبان وشابات من غزة نفسها، يقفون على الخشبة كمن يقف على أنقاض بيته، يحكون لا ببلاغة الأبطال، بل بتلعثم من عاش ولم يُفسّر ما حدث بعد.
لا نصوص محبوكة، ولا جمل مسرحية مصقولة، بل شهادات حيّة، ترتجف أحيانًا، وتصمت فجأة، وتقول: "نحن لسنا رموزًا".
المفارقة أن هذا العرض، بكل بساطته الفنية، يتفوّق على كثير من العروض المدعومة والمدروسة والمُلبّكة بالشعارات، لأنه لا يطلب التماهي، بل يطالب بالإنصات.
هؤلاء لا "يمثّلون غزة"، بل يأتون منها، بجسدهم المحاصر وصوتهم المرتبك، ويحوّلون المسرح من منبر إلى مرآة.
ليسوا "حالة درامية"، ولا "تجربة إنسانية ملهمة"، بل شهود على لحظة جريمة.
لا يطلبون التصفيق، ولا يتوقعون النشر في مجلة مسرحية، فقط يروون: لأن الرواية، أحيانًا، هي ما تبقّى من الإنسان.
________________________________________
في نهاية كل عرض، تتكرر لحظة رمزية: تنطفئ الإضاءة، يُصفّق الجمهور، ثم يعود المخرج ليرتدي قميصه المدني، وربما يبحث عن فرصة إنتاج أخرى.
لكن بالنسبة لفلسطين، العرض لم ينتهِ.
لا تزال المجازر مستمرة، ولا يزال الحصار مفروضًا، ولا يزال العالم يبتسم في صالات العرض، ويتجاهل جثث الأطفال خارج الكادر.
النكبة لا تنتهي، لكن تمثيلها لا يُعفي من المسؤولية.
هل يجرؤ المسرح على أن يكون خصمًا للحظة السياسية؟
أم يكتفي بدور "الراوي الحزين" الذي يقول ما يتوقعه الجمهور؟
هل المسرحي صديق للقضية، أم مندوبها الفني المعتمد في مهرجانات الاستدامة والتمويل المشروط؟
لا نطلب من المسرح أن يرفع السلاح، بل أن يرفع المعيار.
لا أن يُغني لفلسطين، بل أن يُربك صورتها النمطية.
لا أن يحزن نيابة عنها، بل أن يطرحها كسؤال، لا كشعار.
فلسطين لا تحتاج أن "تُؤدّى".
تحتاج من يراها، يسمعها، ويعترف بأنها مسرحية لم تنتهِ... لكنها لا تريد أن تُؤدّى كل ليلة بنفس النص، وعلى نفس الخشبة، من أجل نفس التصفيق..