الأردن.. العربي الأخير في زمن التحولات الجيوسياسية الكبرى

عبد الله سرور الزعبي

مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية

الأردن، الدولة التي أنشئت في قلب منطقة الشرق الأوسط (كنتاج للثورة العربية الكبرى)، المنطقة التي لم تعد تشبه نفسها، وتمور بالتغيرات الجذرية، وتتشكل من جديد، وتتساقط فيها (منطقة الشرق الأوسط) الهويات وتتصارع فيها المشاريع غير العربية على النفوذ، بينما يبقى الأردن كياناً فريداً يراوح بين الثبات والتكيف، واقفًا على حافة التوازن الصعب بين الشرعية الدينية والتاريخية لقيادته والتحديات الواقعية، وهو الذي لم ينخرط في المحاور، ولم يتخلّ عن خطاب الاعتدال، ولا عن مركزية القضية الفلسطينية، رغم تغير اتجاه الرياح السياسية في المنطقة العربية، وكأنه العربي الأخير (المصطلح مستعار من رواية "2084: حكاية العربي الأخير" للكاتب الجزائري واسيني الأعرج) في سردية فقدت ملامحها القديمة ولم تتضح معالمها الجديدة بعد. 

منذ اندلاع احداث الربيع العربي، دخلت المنطقة مرحلة تحوّل جذري، وأعادت تشكيل التحالفات، وأسقطت أنظمة، وأعادت ترتيب الأولويات، وتماهت بعض العواصم العربية مع المحاور الإقليمية والدولية، الا ان الأردن  حافظ على موقعه وموقفة، وإن جعله هذا الوضع تقريباً بلا حليف واضح أو عمق اقتصادي حقيقي، الا انه اختار طريق النجاة بأقل الخسائر، معتمداً على توازن بالغ الدقة بين متطلبات الداخل ومخاطر الخارج، مما جعله عرضة للضغوط من بعض الحلفاء التقليديين وغيرهم، خاصة عندما تعلق  الامر بصفقة القرن وملف القدس واتفاقيات التطبيع.

الأردن الذي بقي لعقود دولة ارتكازية في حسابات القوى الكبرى، وكحاجز جغرافي واستراتيجي بين أعداء محتملين في الإقليم، لكن تراجع هذا الدور في السنوات الأخيرة، بفعل عدة عوامل، منها السعي لتغيّر في خارطة النفوذ الإقليمي، وتراجع الدور القيادي لبعض الدول العربية، لصالح دولاً أخرى تصدرت المشهد، مما ترك الأردن في مساحته الخاصة، وادى الى تقليص المساعدات الخارجية، خصوصاً في ظل تراجع الالتزام الخليجي التقليدي، واشتراطات صندوق النقد الدولي، واتساع نفوذ قوى غير عربية في الإقليم، وسط غياب واضح لتنسيق عربي موحد وقيادة عربية جامعة.

الا ان الأردن، بصفته الدولة الهاشمية الوحيدة في المنطقة، فهو الوحيد الذي يمثل بُعداً رمزيا دينيا وتاريخياً في الوعي العربي الجمعي، وكحارسٍ للمقدسات، ويرى بحل الدولتين مصلحة اردنية وعنصر استقرار في المنطقة، وبقي صوتٍ الحكمة والاعتدال فيها. 

ان هذا الرصيد المعنوي للأردن، بات اليوم مهدداً بعدة عناصر، منها التوسع في الاتفاقيات الابراهيمية، وتصاعد النزعة القُطرية للدول العربية على حساب المشروع العربي المشترك، وتراجع الثقة في ظل الازمات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، ما جعل من الأردن استثناءً في تمسكه بالخطاب العروبي وهاشمي الأخلاق. 

وراء المشهد السياسي الهادئ، يقف الأردن على أرض اقتصادية رخوة، ومهدداً بمزيد من الارتفاع في نسب البطالة، وتراجع في المنظومة التعليمة (الطالب الذي أنهى 12 سنة دراسية يمتلك معارف ومهارات تعادل الصف الثامن فقط)، في زمنٍ تُدار فيه الاقتصادات بالعقول، وتُقاس قوة الدول بمدى جاذبيتها للمواهب، الامر الذي نفتقده تدريجياً وتراجع في منظومة الكفاءات (تقرير المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) لعام 2024 يبين تراجع الأردن إلى المرتبة 49 عالميًا في تصنيف المواهب، بينما تتقدم دول الخليج بثقة وذكاء، ويجب أن يتحول تصنيف النزاهة الاكاديمية الأخير إلى نوع من الغضب الإيجابي)، وهذا يتطلب تنفيذ خطة وطنية حقيقية لا ورقية، وثورة ذكية تعيد هندسة الإنسان الأردني لعصر جديد (فالصدمة وحدها لا تكفي، لقد حان وقت العملية القيصرية!). كما علينا ان نعلم بانه إذا لم نُدخل التغير الحقيقي في عالم متسارع التغير بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، فسنقف عراة أمام تسونامي التغيير القادم. 

ان الفجوة في الثقة بالمؤسسات كنتيجة للسياسات التقليدية وغياب الشفافية والمساءلة تتسع، مما يتطلب إصلاحات فعلية وجذرية في المنظومة الإدارية، لضمان الكفاءة والفاعلية فيها واستعادة الثقة (فالثقة لا تُبنى بالخطب والمجاملات)، فالخطر ليس في تراجع الثقة، بقدر تحوّلها إلى اللامبالاة، وخاصة عندما نعتاد على الأزمات، وينظر الى الأزمة بانها وضعاً طبيعياً، ويصبح المواطن ساخرًا منها، عندها يكون الخطر ليس اقتصاديًا أو إداريًا، بل مجتمعي كبير. 

ما يحتاجه الأردن اليوم ليس مجرد تغيير في النُظم الإدارية والتعليمية بل ثورة وعي تقودها عقول تؤمن أن المستقبل لا يُصنع بالحد الأدنى من الكفاءة فقط، بل بالحد الأقصى من الجرأة، وتؤمن بان لكل مواطن "بصمة مهارية" يتم تحديثها باستمرار.

الجميع مدرك بان الأردن يمر في لحظة تاريخية حرجة، ومنعطفٌ خطير بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ووسط هذا المنعطف، والأزمات المتلاحقة، فان الخروج منه لا يتطلب معجزة (زمن المعجزات انتهى)، بل يتطلب الاعتراف أولاً بالمشكلة، وشجاعة بالتفكير، وجرأة في الفعل، ووضوح في الرؤية، وعلينا أن نعيد تعريف القيادة المؤسسية ، لا كسلطة، بل ككفاءة، ولا كرمزٍ للطاعة، بل كمنهجٍ للمساءلة، وعلينا الاعتراف أن البعض لا يصلح للمهمة (فبعض القيادات لا يخطئ الاتجاه، بل لا يعرف سواه، ويسير في الطريقٍ دون مراجعة، وتفكير، ودون أن يتوقف ليسأل هل هذا الطريق ما زال صالحاً؟ وهل تغيرت الخرائط؟ وهل هناك طرق أقصر، وأكثر أمانًا؟ وأن الاستمرار في هذا المسار قد يعني مزيداً من التراجع، خاصة ونحن نعلم بانه لا يمكن للعقلٍ التقليدي أن يدير واقعاً متغيراً، ومع ذلك، لا تزال النخبة تُعيد إنتاج نفسها عبر ذات الأدوات، وتغتال بعض الشخصيات لإخراجها من المشهد، والنتيجة، دولة مرهقة مالياً، وتراجع مؤسسي، ومجتمع متعب نفسياً.

ان استمرار الأردن في دور العربي الأخير، وتمسكه بخطاب العروبة التقليدي (اخر حارس لأحلام العروبة التقليدية)، والاعتدال السياسي، والدبلوماسية المتزنة، وان صموده على موقفه القائم على شرعيات رمزية توهله ليكون العربي الأخير فعلاً، وهو ليس شرفاً رمزياً فحسب، بل هي مسؤولية ثقيلة تتطلب قدرة على إعادة اختراع الذات، في زمنٍ تعيش فيه المنطقة حالة عدم اليقين. ان مثل هذا الامر يتطلب منه اجراء تحولات داخلية وخارجية عميقة، منها الداخلية القائمة على تنفيذ إصلاح حقيقي للبنية الاقتصادية والإدارية، وإعادة بناء العقد الاجتماعي على قاعدة الكفاءة والمساءلة والعدالة. 

وخارجياً فانه يحتاج إلى سياسة خارجية أكثر جرأة في رسم تحالفاته، وإعادة تعريف دوره الإقليمي بما يتجاوز الحياد الحذر إلى التأثير النوعي والواعي، وهنا فان الأردنيين ثقتهم مطلقة بقدرة جلالة الملك على احداث ذلك.

ان استمرار الأردن كلاعب في نظام عالمي متسارع التغير، قائما على اعتبار ان الولايات المتحدة حليف ثابت، وعلى الرغم من استمرار الدعم الأميركي، الا ان موقعه تراجع في الآونة الأخيرة في الأجندة الأميركية.

 كما يعتبر الأردن شريك في ملفات الأمن مع الاتحاد الأوروبي، وترتفع مكانته في ملفات مكافحة الإرهاب وضبط الهجرة، ويعتبر خط الدفاع الأول للاتحاد الأوروبي ضد الفوضى القادمة من الجنوب، وهو ما زال يملك وبقوة بعض الأوراق ومنها ورقة اللاجئين. 

ان مثل هذا الوضع يجعل الاتحاد الأوروبي من الدول الرئيسية الداعمة للأردن، وتعزيز الشراكة معه ضمن الاتفاقيات الأمنية والتنموية، لكن في المقابل، يظل عرضة لضغوط مشروطة تتعلق بحقوق الإنسان، والسياسات الحدودية، والتعاون الأمني.

ان التعاون الأردني الصيني يتوسع لكنه يسير ببط بسبب حساسية العلاقة مع الغرب، ومن الممكن تمتين العلاقة مع الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق، الا ان هذه العلاقة ستكون دون حماية سياسية وامنية، وبالتالي فان الأردن يحتاج إلى توازن دقيق حتى لا يصطدم بالمصالح الغربية أو يُستخدم كورقة تفاوض في صراع الكبار.

اما العلاقات الأردنية الروسية، فأنها تعد مركبة ومتغيرة، وهي التي كانت ضرورية بسبب التنسيق الحدودي مع دمشق، واتسمت بـالبراغماتية، الا انها تغيرت جذرياً بعد سقوط نظام الأسد، وتحولت الى علاقة رمزية تقوم على مبدأ إدارة التناقضات أكثر من بناء تحالفات طويل الأمد. اما إذا تفاقمت الازمات الروسية، وأصبحت روسيا منشغلة داخلياً، الامر الذي سيعيد ترتيب الخرائط الجيواستراتيجية، ويفرض على الأردن الانتقال من سياسة التوازن الثلاثي بين القوى(أميركا–روسيا–الصين) إلى سياسة اعادة التموضع، اخذين بعين الاعتبار ان العلاقات الاقتصادية الأردنية الروسية متواضعة ومحدودة. 

ان الدعم الأوربي والامريكي والمؤسسات الدولية تجعل من الأردن نموذجاً إصلاحياً في محيط مضطرب، ويمنحه وصولاً مميزًا لتمويل دولي أكبر، وقد يستمر الدعم، لكن بشروط مرتبطة بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية، مما يمنحه دوراً أكبر في تقديم نموذج إصلاحي للاعتدال.

وعلى الرغم من ان البعض يرى بان دور الاردن الجيوسياسي اصبح متأكلاً، الا اننا نرى بانه مازال امامه فرصة قوية ليلعب دور الدولة الارتكازية الذكية، من خلال ورقة الوصاية الهاشمية على المقدسات (رغم محاولات البعض بتقويضها)، ودوره في مستقبل الدولة الفلسطينية وسوريا (التي ما زالت تمر بمرحلة انتقالية، وبين التنافس الدولي  والتركي والإسرائيلي وغيرهم على النفوذ) والعراق وغيرها، و ضمان قنوات التواصل بين المحاور المتصارعة، والموقع الجغرافي، وقبوله كصوت للاعتدال في المحافل الدولية، ووسيط في الكثير من القضايا الإقليمية، وتقديم الدور اللوجستي في مشاريع الربط العربي، ويجب ان يُنظر إليه كـنموذج مستقبلي، يملك مقومات التحول إلى دولة قائدة وبعقلانية (لكن العقلانية وحدها لا تكفي في زمن التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى) في الإقليم، وقادر على تحويل الاستقرار السلبي إلى تنمية مستدامة، وعلى إعادة رسم دوره الخارجي القائم على التوازن الذكي لا الحياد السلبي وليكون جسراً استراتيجياً لا غنى عنه (وهو الدور الذي يعمل عليه جلالة الملك بمنتهى الحكمة والذكاء). 
فالأردن ليس كياناً سياسياً فقط، بل نموذج فكري وأخلاقي، وهو يُصر على سردية العروبة والاعتدال، في زمن الطائفية والانقسامات في المنطقة، ومتمسكاً بمشروعه "العربي الأخير".  الا ان هذا العربي الأخير يختنق في ظل التخلي عنه، وصوته ما زال يقول للعرب كنا الافضل، ويمكن أن نبقى كذلك، لكن هذا الصوت محاصر بالضجيج.

لقد ان الاون ان يعلم الجميع ان استمرار وجود الأردن في المنعطف الخطير، وهو العمق الاستراتيجي للكثير من العرب ومنصة الاسناد لهم (في ظل التنافس على سوريا، ومحاولة استبعاد إيران، وان توقفت معركتها مع إسرائيل الا ان حربها لم تنتهي بعد، وهي التي أرسلت رسائلها للعرب بتصويب صواريخها لدولة قطر، وطموح إسرائيل لتلعب دور الشريك المؤسس والقائد في مستقبل المنطقة)، وإذا اختل وضعه لا سمح الله، فان أوضاعهم جميعا ستكون في طريقها للهاوية، وعندها لن يبقى في العربة العربية الشرق اوسطية إلا الظلام. 

ان نجاح الأردن، في تجاوز التحديات البنيوية، يجعل دوره المستقبلي واعد، وفي حال تحول من دولة رد الفعل إلى دولة الفعل، وبناء قوته الذاتية، مستثمراً تماسكه الداخلي (حيث ان الأردني الذي يربي أبناءه على الأمل، ويخاف على البلاد، ويؤمن بالوطن وبالقيادة الهاشمية، هو جوهر ما تبقى من المعنى) ليحافظ على موقعه كنموذج عربي معتدل ومستقر، قائم على مبادي الثورة العربية الكبرى، وفي هذه الحالة فان الأردن سيكون نواة المشروع العربي الضامن للأمن العربي.