المسؤولية تحت القبة.. بين حق التعبير وواجب المحاسبة
المحامي سلطان نايف العدوان
منذ فترة ونحن نتابع المشاهد المتكررة داخل مجلس النواب، تلك التي باتت تتسم بالفوضى أكثر من كونها جلسات مخصصة لمناقشة قضايا الوطن ومصالح المواطنين.
الأحداث تتوالى، من مشادات كلامية وصراخ، إلى اشتباكات بالأيدي، وصولًا إلى الأمس حين شاهدنا تجاوزًا ضد أحد الإعلاميين الذين يُفترض أنهم عين الناس على ما يجري داخل المجلس.
حدث أيضًا في جلسة، يُطلب من مواطن، بالإضافة إلى وظيفته، مغادرة بيت الشعب لأنه عبّر عن موقفه خلال الجلسة، وكأن الحوار لم يعد مقبولًا إلا إذا كان متماشيًا مع أهواء بعض الحاضرين.
وفي مشهد آخر، يُهاجم رئيس المجلس وزارة المالية، حين يُتهم وزير المالية بالتقصير فقط لأنه لم يجب على اتصال هاتفي، وكأن الإدارة الفعالة باتت تُقاس بسرعة الرد على الهاتف بدلًا من تحقيق النتائج على أرض الواقع.
ما يحدث لم يعد مجرد تجاوزات فردية أو مشاهد عارضة، بل تحوّل إلى نمط يعكس اختلالًا في فهم الدور الحقيقي للمجلس.
في وقت تواجه فيه المنطقة تحديات متصاعدة، يصبح من الضروري أن تتحول الجلسات إلى عمل منتج، لا إلى منصة للخطابات الشعبوية والاستعراضات السياسية.
وردًا على استفسار أحد النواب حول عدم حضور مجلس الوزراء لإحدى الجلسات ، يا أخي الكريم، أرجوكم، دعوهم يعملون، دعوهم يجوبون المحافظات، يلتقون بأبنائها، ينصتون لمطالبهم. لقد عاصرت جدران هذا المجلس خطابات كثيرة، وحان الوقت لأن نرى العمل في الميدان.
فالمسؤولية الوطنية لا تقف عند حدود التصريحات، بل تبدأ من الأفعال التي تصنع الفرق.
منذ الأمس وأنا أتابع أصداء التصريح الذي أثار الجدل، حين تم ذكر "سجن الجندويل”، لكنه لم يكشف جديدًا بقدر ما أعاد للأذهان حقيقة معروفة؛ حين تصدّر الشارع الأردني مشهد الاستياء على المنصات، ليؤكد مجددًا ما اعتاد عليه الأردن، حين يكون الوطن على المحك، يكون الشعب أول المدافعين عنه، ويكون ولاؤه صادقًا لمن حملوا أمنه على أكتافهم دون أن يسألوا عن المقابل.
في وطني، هناك جيش يحمي شعبًا، وشعب يحمي جيشه، وجيش وشعب يفدون الوطن، وهذه المعادلة لم تكن مجرد شعار، بل واقع تعمّد بالتضحية والصبر.
لا يوجد سجن في الجندويل، بل هناك رجال أقرب إلى الخطر ليبقى الوطن بعيدًا عنه.
هناك نشامى فرسان الحق، أبناء هذا الوطن، الذين اختاروا أن يكونوا في الصفوف الأولى، ليظل الجميع في أمان.
من يريد الحقيقة يعرفها، ومن يردد العبارات دون وعي عليه أن يسأل نفسه لماذا الجندويل تعني للكثيرين سياج الأمان، ولماذا هؤلاء الرجال الذين يديرون هذا الجهاز الأمني هم إخواننا وأعمامنا وأخوالنا، أبناء الأردن الذين كانوا وما زالوا الدرع الأول ضد المؤامرات والفتن.
لم يكونوا يومًا منفصلين عن هذا الشعب، فهم جزء منه، امتداد لتاريخه، وحراس حاضره، وسياجه الذي يُبقي الوطن بعيدًا عن الفوضى.
ليس سرًا أن الأردن تعرض عبر تاريخه لموجات من الاستهداف، لكن الفرق بين من يرى الصورة كاملة ومن يردد ما يُملى عليه، هو إدراك أن هناك رجالًا يعملون ليلًا ونهارًا ليبقى هذا الوطن محصنًا.
فالجندويل لم يكن مجرد موقع، بل مقر عز وفخر لأبناء الوطن الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية حماية استقراره بصمت.
كان شاهدًا على صمتٍ أنقذ البلد أكثر مما يظن البعض، وعلى رجالٍ تعاملوا مع تهديدات لم يسمع بها الناس، لأنهم أنهوا الفتن قبل أن تتحول إلى أزمات.
الأمن لا يُقاس بعدد المرات التي يظهر فيها في العلن، بل بعدد المرات التي حال دون وقوع ما كان سيجعل ظهوره ضرورة.
في معادلة الأمن الوطني، هناك مفاهيم لا تخضع للمزايدات، فليس كل ما يُقال صحيحًا، وليس كل من تحدث كان على دراية، والأهم أن هناك مسؤوليات لا تحتاج إلى تبرير، بل إلى أداء.
حرية التعبير تحت القبة لا تعني الإفلات من المسؤولية، ولا يجب أن تتحول الحصانة إلى غطاء لإطلاق تصريحات غير مدروسة تمس الأمن الوطني دون إدراك لتبعاتها القانونية.
فالمساءلة لا تعني التضييق على الرأي، بل تعني حماية الحقيقة من التشويه، وحماية الدولة من أن تتحول إلى ساحة للصراعات الخطابية بدلًا من ساحات الإنجاز الفعلي.
في زمن أصبحت فيه المعلومة متاحة للجميع، باتت القدرة على التمييز بين الحقيقة والتضليل مسؤولية كل فرد.
هؤلاء الرجال، الذين عاهدوا تراب الوطن والملك، هم زيتون الأردن، جذورهم راسخة لا تُرى، لكنهم ثابتون في كل الظروف، لا يتغيرون مع الفصول، يعملون بصمت، وأثرهم يمتد حيث يجب أن يكون.