مواطنون يجلبون المياه على الدواب في الكرك لمواجهة العطش ..!

مع انطلاقة النهار، تبدأ القافلة رحلتها المعتادة، رحلة تحمل بين خطواتها؛ في آنٍ معًا، أوجاع الحاجة وجمال الطبيعة التي يمرون بها خلال مسيرهم.
من حي صغير، حيث الحياة تسير على وقع الشقاء، يجتمع الصبية كما في كل مرة، يستعدون لرحلتهم الأسبوعية نحو الماء.
على ظهور دوابهم، تتأرجح الغالونات الفارغة، تصدر أصواتا خفيفة بينما تلامس بعضها البعض، وكأنها تواسي من يحملها، تهمس لهم بأن الطريق طويل لكن النهاية تستحق العناء.
ثلاثة كيلومترات تفصلهم عن مقصدهم، وثلاثة أخرى تنتظرهم في طريق العودة، لكنهم اعتادوا على ذلك، كما اعتاد آباؤهم وأجدادهم قبلهم.
يحضرون الماء من مكان يسمونه مصب "عين مغارة"، نسبة لعين الماء الآتية من منطقة وادي بن حماد في محافظة الكرك، لتصب في منطقة الأغوار من خلال السيل الذي يغذي قنوات الماء هناك.
هم على هذه الحالة منذ عشرات السنوات، في ذات الحي بغور حديثة، الذي رصدنا الظروف المعيشة لسكانه في حلقة سابقة، يقومون بـ«رحلة جلب المياه على ظهور الدواب»، مرتين أسبوعيا.
تعد هذه الرحلة كشريان الحياة بالنسبة لهم، فهذا الماء يستخدمونه للشرب ولكل شيء أخر.
الماء ليس صافيا دائما، وفي أحيان كثيرة يتعكر جراء هطول الأمطار التي تجرف الأتربة إلى مجرى النبع، وفي هذا الحال لا يصلح الماء إلا للغسيل، فيضطرون لجلب مياه الشرب بواسطة الصهاريج، رغم كلفتها العالية عليهم.
أكثر ما تبصره العين حول منازلهم، كثرة الغالونات الموجودة في كل ركن، وتشرح عائشة الغنيمات (أم إيهاب)، أن هذه الغالونات في أصلها كانت تحتوي على الأسمدة الكيميائية أو المواد النفطية، يحضرونها من المزارع المجاورة لهم، ويقومون بغسلها وتنظيفها.
وتقول أم إيهاب: «نضطر للذهاب إلى السيل لجلب المياه، رغم بعده عنا، لأن توفير المياه بواسطة الصهريج، في حال توفر المال الكافي لدينا، تبلغ كلفته حوالي 20 دينارا، وهو أمر مكلف على عائلة كبيرة تستهلك الكثير من الماء».
وتوضح «ليس لدينا كهرباء وأجهزة تبريد، وللحفاظ على برودة المياه خلال الصيف، نستخدم الغالونات (المطرات)، حيث نقوم بتنظيفها ثم نغطيها بالخيش، ما يكسبها البرودة».
وبحسب الغنيمات فإن المياه التي يشترونها من خلال الصهاريج، تحتوي على نسبة عالية من الكلور، ولذلك يفضلون في كثير من الأحيان تعبئة المياه من السيل، حيث تكون -من وجهة نظرها- أكثر صفاء ونقاء.
.. يتحركون في رحلتهم (لجلب الماء) على إيقاع خطوات الدواب، يقطعون تضاريس الصحراء.. جبال وهضاب تمتد بلا أفق واضح للنهاية، وكأنها تختبر صبرهم.
الطريق ليس سهلًا، لكنه أيضًا ليس غريبًا عليهم، يعرفون كل صخرة وكل منعطف، يحفظون التضاريس كما يحفظون وجوه بعضهم البعض.
ومع مرور الوقت، تبدأ معالم الأرض بالتغير، من أرض قاحلة إلى أشجار خفيفة متناثرة.
تزداد الأشجار كثافة، والهواء يصبح أكثر رطوبة، وهذا بمثابة الدليل الذي يخبرهم أنهم اقتربوا,, ثم يقتربون أكثر، حتى يسمعون صوت الماء، ذلك الصوت الذي يُنسيهم تعب الرحلة للحظات، وأخيرًا، ها هم أمام النبع.
يضعون أحمالهم، ينحنون نحو الماء، يشربون منه، يغتسلون، يملأون غالوناتهم، وكأنهم يجمعون الحياة نفسها داخل تلك الأوعية.
حين تكتمل تعبئة الغالونات، تبدأ الرحلة مجددا، نحو العودة، لكن هذه المرة، الدواب تمشي ببطء، فالحمل أثقل، والطريق أطول، وكأن المسافة تضاعفت في طريق العودة.
الشمس تبدأ بالميل نحو المغيب، والعرق يتصبب على جباه الصبية، لكنهم ماضون، لا مجال للوقوف، فالحياة تنتظرهم في بيوتهم.
عند الوصول، يتحلق أهل الحي حول القافلة، يفرغون المياه في آنيتهم، يملأون جرارهم، يروون عطشهم، وكأنهم يعيدون الحياة لمضاربهم الصغيرة.
وهناك، وسط هذا المشهد، يبدأ أحدهم في غلي الماء لصنع الشاي، ذلك المشروب الذي لا يفارق مجالسهم، وربما يكون الشيء الوحيد الذي يجدونه دوما. لحظات قليلة من الراحة، يلتفون حول إبريق الشاي، يرتشفون جرعات دافئة، وكأنهم يحاولون نسيان معاناة الطريق,, ونسيان معاناة شح المياه في حيهم، لكنها استراحة مؤقتة، فما هي إلا أيام قليلة، وسيعيدون الكرّة من جديد الراى