جنود بلا وجوه … أسلحة بلا دماء

المحامية هبة أبو وردة 

في الأزمنة القديمة التي كان فيها طغيان العدو ساذج، لا يعرف سوى الحديد والنار، كان يقرع الحدود بالمدافع، ، يقتحم الأوطان بوقع جنازير دباباته، و قذائف تهز الأرض تحت الأقدام، ورصاص كزخات موت تهوى من السماء، تاركا خلفه الدمار شاهدا على وحشيّته، فتفضحه آثار خطاه، ويعرفه القاصي والداني بأنه الغاصب المعتدي، أما اليوم، اصبحنا امام عدو، أكثر دهاء، يتسلل عبر ثغرات السياسة وأزقة الإعلام، يزرع الفتنة بدل القنابل، ويشوه الحقيقة بدل المدن، فأصبح غزوه رقميا، ناعما في ظاهره، لكنه أشد فتكا في جوهره، لم يعد جنديه يحمل بندقية، بل بات يمسك بلوحة مفاتيح، يكتب عبارات مسمومة أشد خطرا من الرصاص، ويهدم الأوطان لا بالجرافات، بل بالخطابات، فتحول العدو من قاتل مكشوف إلى ظل يتوارى خلف قناع الصديق.

عصر الثورة الرقمية، حول السياسة إلى معركة تدور رحاها على الشاشات، وسائل التواصل الاجتماعي، فتحت الباب على مصرعيه أمام "الجيوش الالكترونية"، فدخلت الى الميدان، متسللة عبر الشاشات، تزرع بذور الفتنة بدل القنابل، وتطلق الشائعات بدل الرصاص، لم تعد الحرب تخاض في الساحات، بل في العقول، ولم تعد الحدود تخترق بالقوة، بل بالوهم، والعدو لم يعد بحاجة إلى جيوش تقاتل، بل إلى كلمات تضلل، ينسج بها شباكه كما ينسج العنكبوت فخه، منتظرا أن يسقط فيه من لا يرى الخطر في الخيوط الرقيقة.

حين تعاد كتابة السياسة بالحبر الرقمي، في بيئة تدار عبر خوارزميات شفافة، لا يكون الصوت الأعلى هو الصوت الأصح، بل الصوت الذي يدفع به في الاتجاه المطلوب، فما أن تطلق "الجيوش الالكترونية" المدربة، حملة منظمة من الأخبار المفبركة و المضللة، والتي تغرق الفضاء الرقمي بمحتوى غير موثوق،  يستخدم كأداة فعالة  لصناعة واقع سياسي مغاير للحقيقة، وفرض السرديات المعارضة، وما أن تخمد نار حربها قليلا الا و قد ظهر سرب من الحسابات الموجهة ليشد عضدها، ويتولى خلق موجات من التفاعل المصطنع، تشب كالنار في الهشيم،  لتوهم العامة، بأن هناك رأيا عاما متفوقا عليه، لتتحول بعد ايام قليلة الى "ادراك جمعي".

هذه القدرة على صناعة الإدراك الجمعي، جعلت وسائل التواصل الاجتماعي ليست فقط منصة لنقل الأخبار، بل أداة لصياغة المصائر السياسية، عبر حرب خفية "جريمة رقمية سياسية"،  فالكلمات تتحول إلى رصاص، والتفاعلات إلى وقود، والتلاعب بالخوارزميات إلى سلاح لا يقل فتكا عن أي أداة قمعية عرفها التاريخ، تدار بذكاء رقمي يفوق في مكره دهاليز السياسة التقليدية.

في عالم السياسة التقليدي، كان اغتيال الشخصيات السياسية، بطلقة رصاصة مباشرة، أما اليوم، تبدأ "الجريمة الرقمية السياسية" غالبا بحملة تشويه ممنهجة، تطلق بها الإشاعات بالوقت المناسب، وتغرق المستهدف بسيل من الادعاءات، حتى تصبح صورته أمام الرأي العام ضبابية، متناقضة، ومثيرة للشك، ثم تأتي المرحلة الثانية، عزله وجعله أسيرا لدفاعات لا تنتهي عن اتهامات لا أساس لها، ويحدث الموت البطيء، بأدوات لا تترك دما ولا بصمات، بل أثرا أعمق، اغتيال المستهدف، وتصفية دولته معنويا.

تكمن الخطورة في هذا النوع من الجرائم، أن المجرم لا يكون واضح، فهو اذكى من أن يترك اثر يده،  إلا أن الأخطر من ذلك أن يستطيع استخدام المواطن نفسه كاداة في هذه الجريمة دون أن يدرك دوره فيها بتوجيه الرأي العام بمهارة، فيتحول الى منفذ الجريمة، مقاد إلى "معركة رقمية سياسية"، لتجعلهم دون أن يشعر اداة تصفية حسابات سياسية اكبر منه، بلا قتال مباشر، لكن بضحايا كثر، وآثار سياسية طويلة الأمد، تترك الوطن مكشوفا أمام العدو دون أن يطلق رصاصة واحدة.

فلم يعد العدو بحاجة إلى خونة في الداخل، فقد صنع لنفسه خونة رقمين، فلم يعد بحاجة لخائن عميل يحمل وثائق مسربة، أو جاسوسا يهرب الأسرار إلى الخارج، بل يكفيه يكون مجرد صوت يملأ الفضاء الرقمي بدخان الشائعات، ويغرق العقول بسيل من الأكاذيب،  حتى تصبح الحقيقة غريبة في وطنها، ويصبح التشكيك بكل شيء هو المبدأ العام، كأنهم لا يريدون للأوطان أن تسقط بسلاح، بل بشعور أبنائها.

بدأت المعركة تتخذ شكلا آخر، أكثر خبثا، أكثر لؤما، لم تعد الحرب تستهدف الأرض، بل تستهدف الفكرة، لم تعد الغاية إسقاط الدولة، بل إسقاط الثقة بها،  تدار الهجمات من وراء لوحات المفاتيح، تزرع الشائعات كالألغام، وتطلق الأكاذيب كالرصاص، دون أن ترى يدٌ تمسك بها، إنهم جنود بلا وجوه، يتحركون في العتمة، يضربون ثم يختفون، يرسلون رسائلهم المسمومة ثم يتوارون خلف أسماء مستعارة، كخفافيش لا ترى، لكنهم حاضرون في كل مكان، إنهم جنود بلا وجوه، يضربون بلا ضجيج، يتسللون إلى العقول لا عبر الأبواب، بل عبر الشاشات، يزرعون الفوضى لا بالرصاص، بل بالكلمات ،إنها حرب لا تحتاج إلى جيوش، بل إلى حسابات وهمية، لا تحتاج إلى جنود، بل إلى أبواق مأجورة، لا تحتاج إلى قنابل، بل إلى شائعات تتفجر في وعي الناس، لتوجيهه نحو عالم في ظاهره حر، لكنه في عمقه محكم السيطرة، يقاد بمهارة نحو قناعات صنعت له مسبقا.

أصبح محتما علينا الآن أن نرى الحقيقة بأعيننا لا بعيون غيرنا، أن ندرك أن الحروب التي تشن ليست عسكرية، بل نفسية، ليست مواجهة، بل استنزاف، وان الأوطان لا تحفظ بالقوة وحدها، بل بالوعي، والإدراك، فلم تعد الأرض هي الهدف الوحيد، بل العقول، وأن الخسارة الحقيقية لا تكون حين يسقط جندي في المعركة، بل حين يفقد الشعب ثقته في وطنه.