روح الروح: موعدكم الجنة
إسماعيل الشريف
الشهيد لا يطلب منا أن نبكيه، بل أن نحمل حلمه كما حمله، ونمضي به إلى أبعد مما كان يحلم- إبراهيم نصر الله.
حين يُزَفُّ نبأ استشهاد من نحب، قد نظهر الفرح، لكن خلفه تتوجع القلوب، وترتجف الأرواح، وتسيل الدموع، وكأن نجمًا في السماء قد انطفأ.
كان نبأ استشهاد «روح الروح» طوفانًا اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي، محمّلًا بكلمات مؤثرة من عرب وأجانب، ينقل ألمًا ظاهرًا ودموعًا غزيرة. كيف يمكن لفقدان شخص لم نعرفه يومًا، وشاهدناه فقط عبر الشاشات، أن يترك هذا الأثر العميق في أرواحنا، ويزرع جرحًا لا يندمل؟.
لم يكن «أبو ضياء» فقط شهيدًا؛ بل كان رمزًا للحب الأبدي الذي تجاوز كل قصص الحب التي عرفناها. كان تجسيدًا للوفاء الذي لا تحدّه حدود الزمن، وللطيبة التي روتها أجيالنا في الحكايات. أخلاقه كانت أنموذجًا ساميًا، وصفاته ذكّرتنا بما وُصف به الصحابة رضوان الله عليهم.
حمل حفيدته بين ذراعيه حين استُشهدت، فتح عينيها وقبّلهما بحنان، وهو يردد: «روح الروح»، تلك العبارة التي دخلت القلوب وأصبحت لغة عالمية، تفوق في معانيها مفهوم الحب. ظلّ يحمل ذكراها في قلبه، يتشبث بحبها كلما ضاقت عليه الأرض. واليوم، من عالم الطهر، تناديه بصوت لا يُقاوم، ولم يعد له خيار سوى أن يلبّي النداء.
أكاد أراه الآن، يحتضنها في جنات الخلود. يداها الصغيرة تمتد نحوه، وضحكتها تضيء المكان، يصفف شعرها بينما يهمس لها بحبٍ عميق: «ها أنا هنا يا روح الروح، لن نفترق أبدًا.» هناك، اختفى الألم، وتلاشى الحنين، وحلّت السكينة مكان كل وجع، حيث لا مكان سوى السلام الأبدي.
لم يكن «أبو ضياء» مجرد إنسان عاش حياته بين أهله وأحبّته، بل كان شعلة أضاءت دروبًا كثيرة في هذا العالم. بشخصيته الاستثنائية، استطاع أن يغير الصورة النمطية عن المسلمين، مقدمًا نموذجًا حيًا يعكس جوهر الإسلام الحقيقي. بكلماته المفعمة بالحب وأفعاله التي جسدت الرحمة والإنسانية، لامس قلوب الناس في شتى بقاع الأرض، مسلمين وغير مسلمين على حد سواء.
كان حضوره رسالة حية عن الإسلام الذي يدعو للسلام والتعايش، مما دفع الكثيرين إلى إعادة التفكير في هذا الدين العظيم، بل واعتناقه متأثرين بنبالة شخصيته وعمق مبادئه الراسخة. كان «أبو ضياء» داعيةً بكلمتين فقط: «روح الروح». لقد تركت صورته وهو يحتضن حفيدته الشهيدة أثرًا يفوق ما أحدثه أكبر الدعاة وأهم المؤسسات والكتب والمواد الدعائية مجتمعة، ليصبح رمزًا حيًا للإنسانية التي لا تعرف حدودًا.
وما زلنا نحن هنا، على هذه الأرض، نبكي فراقهم، نحمل ذكراهم في قلوبنا المثقلة بالحزن.
بعد أن نغادر، من سيخلّد قصص الشهداء؟ من سيحكي عن بطولاتهم وأرواحهم التي عاشت للحق؟ من سيروي قصص القلوب التي ضحّت ليحيا الآخرون بكرامة؟.
قصة «أبو ضياء» ليست حكاية فراق، بل قصة لقاء خالد. لقاء يليق بأرواح طاهرة في مكان لا يعرف الظلم ولا البؤس. إنها رسالة لنا جميعًا أن الحب الحقيقي لا ينتهي بالموت، بل يولد من جديد عنده.
وداعًا يا أبا ضياء. رحلت إلى من تُحب، إلى نور حياتك الذي انتظرك. أما نحن، فسنظل نحمل ذكراك في قلوبنا، نحكي عنك بفخر، نخلّد قصتك، ونعلم أطفالنا أن الشهداء ليسوا أرقامًا، بل أرواح تحمل قصصًا وأحلامًا لا تموت.
السلام عليك يوم وُلدت، ويوم استُشهدت، ويوم عانقت حفيدتك في جنات الخلود.