شآم أهلوك أحبابي !

رشاد ابو داود

مديحة من دير الزور، منيرة من مخيم اليرموك، طلال من السويداء، كوثر من دمشق وعايدة، قاسم، منعم، أحمد، شوكت وأنا من الأردن. شلة أو مجموعة من كلية الآداب قسم اللغة الانجليزية وآدابها. جمع بيننا ما يشبهنا فينا. الدراسة، حب اللغة الانجليزية، أغاني الستينيات والسبعينيات لديميس روس، توم جونز فرقة البيتلز وغيرها.

درسنا السنة الأولى في المبنى الرئيسي لجامعة دمشق التي تعود نواتها الى العام 1903 من خلال المدرسة الطبية بفرعيها الطب والصيدلة. وفي العام 1923 تم دمج المدرسة الطبية مع مدرسة الحقوق التي تأسست العام 1913 تحت مسمى الجامعة السورية. ظلت تحمل هذا الاسم حتى 1958 لتصبح جامعة دمشق وتضم كافة التخصصات التي تدرس باللغة العربية حتى العلمية منها.

في قاعات ذلك المبنى القريب من نهر بردى كنا نشم رائحة التاريخ ممزوجة برائحة الأزهار والأعشاب التي كانت تنمو على ضفتي النهر. لم يكن يعكر علينا سوى الأساتذة الجديون جداً جداً. حدثنا الزملاء الذين سبقونا عن حكايات بعض الأساتذة التي تقشعر لها الأفكار والأقلام وتسد النفس والعقل عن الدراسة.

قالوا إن طلبة كلية الحقوق كان عليهم امتحان شفهي للتخرج. يصطفون في الدور ليدخلوا على مكتب الأستاذ واحداً تلو الآخر. يدخل الطالب فيجد الأستاذ ينطنط كرة طاولة. ينتظر الطالب ليسأله الأستاذ، لكن لا سؤال ولا من يسأل. يخرج الطالب ليخبر زملاءه بما حصل. يدخل الثاني والثالث والرابع ليحصل معه ما حصل مع سابقيه.

طالب حمش ضاق ذرعاً فقال « استاذ ممكن تسألني، هذا الوقت من حقي. « ابتسم الاستاذ، سجل اسم الطالب على ورقة، وقال له خلص سألتك «. بس انت ما سألتني. قال الاستاذ : لقد كنت جريئاً ومارست حقك وفقاً لقاعدة « تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين « لهذا أنت ستكون محامياً ناجحاً وتحصل حقوق موكليك.

طبعاً الآخرون رسبوا.

وكم كنا نرى قوائم النتائج آخر السنة التي كانت تعلق على ابواب الكليات لاحدى المواد عبارة «لم ينجح أحد» !!

وقد نابني من «جدية» الأساتذة نصيب حيث عدت سنة كاملة من أجل ثلاث علامات. وتلك حكاية أخرى.

في تلك السنة غص المدرج الرئيسي للجامعة بالطلبة وغيرهم. كانت أمسية لشاعر عراقي لم يكن مشهوراً. دخلنا، رأيناه يتحدث بصوته وحركات يديه ورأسه و.. كله. غاضب حتى السماء. يشتم ويلعن ويردد « لا أستثني منكم أحداً « والحاضرون يصفقون بلا انقطاع. كان الشاعر ابن الأهواز مظفر النواب وقصيدته «القدس عروس عروبتكم...».

في السنة الثانية كان تم بناء كلية الآداب في المزة فانتقلنا اليها لنكمل سنوات الدراسة الأربع وأحياناً الخمس أو الست سنوات، حسب جدية الأستاذ، أقصد صعوبته.

كانت الكلية أقرب الى تفرع لنهر بردى. اخترنا نحن « الشلة « منطقة صغيرة مفروشة بالعشب أسميناها « البنفسجة «. كنا نجلس فيها ومن يسأل عن احد منا يقال له، يمكن في البنفسجة».

كنا في العشرين، شباب مندفعون فينا من عبد الحليم ونزار ومحمود درويش، والبنات من سعاد حسني وميرفت أمين وفاتن حمامة وناديا لطفي وجيل ذلك الزمن. وبحكم دراستنا، فينا من افكار شكسبير وبايرون وشيلي وايزرا باوند وعمالقة الأدب الانجليزي.

وقتها كانت «المزة» ضاحية شامية جميلة صغيرة ليست بعيدة عن وسط دمشق. تسكنها الطبقة المتوسطة لا المتسلطة. لم يكن فيها سجن كالذي تتكشف فظائعه وغيره الآن.

بداية السبعينيات تغير طعم الشام تدريجياً، خف عبق الياسمين وانخفض صوت فيروز وصباح فخري. لكن تظل « شآم أهلوك أحبابي «.

رحل نظام وجاء نظام وما نتمناه أن لا ترحل الشام بالتقسيم او الاحتلال !!