(ممدوح العبادي) ابن رأس العين براغماتي.. دخل الحكومات من خندق المعارضة!
عصام جلال المبيضين
ظلّ (ممدوح العبادي) طبيب العيون والسياسيّ الريفيّ الذي ولد في حي (رأس العين) ابن (عيرا ويرقا) في (نيولوك) قديم بعيدًا عن عوالم (التكنوقراط)، ولم يتغلغل داخل (كريما) النخب والاثرياء، والبورصات والأسهم والمضاربات، وإن أجاد التقاطع مع الظروف المختلفة ، والتلاعب معها هنا وهناك أحيانًا .
عاش (أبو لونا) تحت سياط الفقر ، والخوف من الثأر ، حينما استقرّ في عمّان هاربًا، حيث غادر مع أقاربه مَجليًّا أولًا إلى الكرك ثم أطراف عماّن، ودرس عند الجهابذة بخيمة الشيخ (برأس العين)، ومشى في عمّان حافيًا من أولها إلى آخرها، وبالتحديد؛ من منطقة مصنع الثلج سابقًا في طريق السلط بعد وزارة المالية، وصولًا إلى الشارع الرئيس وبعد قصر العدل.
رجل مشاغب بفطرة الأحياء الشعبيّة، عاش حياةً عاديّةً قاسية، باستثناء أنّ أحلام جيله حملته على مقارعة الأيام بجرأة وجسارة، رافضًا الاستسلام أمام أي تحدي أو معركة، كما تحدى غيوم اليأس، وحلّق بمنطاد الفقر، الذي يفرض على صاحبه سقفًا يصعب تجاوزه، لكنه استطاع أن ينقلب على حاله؛ من خلال الذهاب إلى أبعد مدى، فكان الإصرار على ترك (رأس العين) متجهًا إلى (اسطنبول) طالباً للطب، فيما أقساط الجامعة بلغت حوالي (شلن)، كما أنّ السفر من عمّان إلى (اسطنبول) ،لا تكلّف أكثر من ثلاثة دنانير اردني برًا بالسيّارة إلى الشام ثم بالقطار من (حلب) إلى (اسطنبول) ومدة يومين سفر.
عاد ابو صالح بالروب الأبيض، مدججًا بأحلام سيريالية ، طموحة لكنه آثر أن يكون طبيبًا للجميع، ومنها انطلق إلى الخدمة العامة، وحط الرحال في المنطقة الشعبيّة (الكوزموبوليتيّة) وشاهد الفقر في عيون وشكاوى الناس بالزرقاء مدينة العسكر والعمال
ولاحقا ذهبَ إلى (بريطانيا) لكي يتخصًص بطب العيون عبر بعثة حكوميّة عام (1971)، ومكث هناك حوالي ثلاث سنوات؛ ليعودَ طبيبًا للعيون مرتديًا نظارة؛ من أجل النظر في وجوه الناس وتلمّس احتياجاتهم، ثم تدرّب في مستشفى العيون، وعملَ في الحكومة، متوّجًا أحلامه بفتح عيادة للعيون في الزرقاء.
استشعر الطبيب الغاضب أنّه فقير ابن منطقة راس العين الشعبية ، مختوم بالحاجة إلى الاستعانة بصديق، وسط نخب وطبقة (براجوازية) تهيمن على المشهد، وشعر بأنّ الاحتجاج رسالة غضب، مفادها؛ نحن هنا، معبّرًا عن ذلك بسر، بما كان يقوله سابقًا وباستمرار منذ عام (1974) قال بأنّ تشكيلة مجلس الأعيان لم تتضمّن أيَّ «عبادي»، فقمنا بالاتصال مع (العبابيد) ووقفنا وتجمّعنا عند الدوّار الثامن، وأغلقنا الشارع، فنقلني الوزير في حينها على أثر ذلك من عملي الحكوميّ في الزرقاء إلى إربد نقلًا تأديبيًّا .
بعد أنّ أوقعته السياسة في حبائلها؛ انخرط في مقارعة السياسيين بمختلف تلاوينهم وأطيافهم وفسيفسائهم من حملة المنجل و(الشاكوش) والبعثيين واليساريين والرايات الخضراء ، وبذكاء رفض أَنْ يُحسب على تيّار سياسيّ، مؤثرًا أن يكون قريبًا من الجميع بشتّى أيديولوجيّاتهم وبعيدًا عنهم بنفس الوقت في الانتساب لاي حزب، كما رفض الانغراس في خندق محدّد،
لكنّه ناورهم وحاورهم توافق معهم بالخطوط العامّة، ورفض التقوقع داخل حلقات تنظيريّة مغلقة ،حيث انطلق الى افاق اوسع، لذا؛ استطاع أَنْ يحظى بأصواتهم خلال انتخابات نقابة الأطباء التي أصبح نقيبًا لها، وهو القادم من عمله كطبيب لدى وزارة الصحة.
(العبادي) الثوريّ بمراحل، قاد المظاهرات في ساحات الأغوارعلى الحدود مع فلسطين، كما أنّه ترأس لجان دعم الانتفاضة وأيضًا لجان دعم العراق، ووقف مع الأمّة بنزعته القوميّة، دون أن يتجاوز وطنيّته المُلتزمة تجاه الأردن، التي عبّر عنها بالتزامه أيضًا تجاه عروبة فلسطين حتى النخاع .
وبصورة تعاكس الواقع دخلَ متسللًا من خلف ظهور الطبقات المخمليّة، دون أن يرفع الراية، حيث حجزت النخب كراسي الوزارات لها، واستأثرت بالمقاعد التمثيلية،ويقول (أبو صالح):"إنّ محافظات الجنوب (معان- الكرك- الطفيلة -البادية الجنوبية) ساهمت في حدوث انقلاب في أنماط اختيار النخب السياسية بعد هبّة (نيسان) عام (1989
بعد ذلك تنوّعت سيرته بعد تعيينه أمينًا للعاصمة (عمّان) إبّان حكومة (عبد السلام المجالي) بعد (قرصة إذن)، ويستذكر (أبو صالح) ما قاله (المجالي):"بدك تصير أمين عاصمة" فيما ردّ الأول مجيبًا:"أود الترشّح للانتخابات النيابيّ". ليجيب الثاني:"ليش يا فصيح بدك تترشح!". فردّ (أبو صالح):"حتى اخدم الناس" مستذكرًا أنّ (المجالي) قام من وراء الطاولة ومسك (اذني) وأبدى موافقته، ولم يستطع التخيّل أنّني سأنجح كوني لست مهندسًا، وهذا النجاح الذي ظهر في الإنجازات المتمثّلة بشارع الأردن، وغيرها ولاجل العمل أكل (الفلافل والحمص) مع العمال على الدواوير وبالشوارع في الليالي، بالأنفاق ونفق الحدادة ،وملعب (القويسمة)، ورد بحنين طفولى لاشعوري الجميل لساحات ملاعب الصبا الوفاء، واقام مبنى الامانة والمراكز الثقافية في راس العين، حيث الذكريات تداعب طيفي ، واصبح المبنى من معالم وسط البلد
ويستذكر (أبو صالح من مخزون ذكرياته أنّ سيدةً في المجتمع المخمليّ قالت:"هاي كحشنا أمين العاصمة" ، فمن هي هذه السيدة؟ لم يفصح (أبو لونا) عن طريقة مغادرته منصبه، ولكنّها سبّبت جرحًا عميقًا له إلى الآن؛ لاعتقاده بأنه لم يكن هناك مبررًا لهذا التغيير
وذهب (أبو لونا) إلى النيابة دافنًا أحزانه في (العبدلي) رافضًا الانصياع لقانون الحياة الذي نسج أحلامه فيها بحزن ووجدان مكسور استنادًا إلى قاعدة "لكل مجتهد أعداء" فيما أصبح لاحقًا وزيرًا ونائبًا، إلّا أنّه خرج من حلبة مقارعة نخب (عمّان) التي تحتاج لسياسيّ لديه أنياب
أصبح المدخن الشره وزيرًا ، فيما يتحدّث (أبو صالح): قائلا "كنت دومًا وقبل أن أصبح وزيرًا أرى أنّ كل وزير سرّاق، ولكن بعد أنّ أصبحت وزيرًا؛ عرفت أنّ هذا غير صحيح، بمعنى إذا كان لدي المال فأنا سارق؛ لأني لم أستورث ولم أشتغل بالتجارة"
و(العبادي) يتميّز بأنّه ينظر إلى زوايا المشهد كاملةً، دون أن يذهب إلى تغليب زاوية على أخرى او يتمترس خلف راي ، وهو معارض في بلاط الحكومة، وحكوميّ في جلسات الأحزاب ، ويضع قدمًا مع السلطات، وأخرى مع المعارضة، ويعرف ولا يفصح، رغم خطوط اتصاله الواسعة مع الحكومة ومؤسساتها، إلّا أن برامجها لم تسلم من النقد، كما أنّه حافظ على خطوط اتصاله مع شخصيات عديدة محسوبة على المعارضة السياسيّة والمولاة، لذلك؛ ظلّ قادرًا على قول كلمته في الزمان والمكان المناسبين بخطوط وبعنوان ... بلا مواخذة.!
في سنوات بعيدة كان أصدقاؤه يعرفون أين يعثرون عليه، إذ كان دائم التردد في كلّ صباح على عيادته الواقعة في (جبل عمّان) الدوار الاول ، و(اللويبدة) لاحقا ، حيث تجد في مكتبة اليساريّ والقومي والراديكاليّ والموالي والملياردير وصاحب الحاجة الطفران القادم بـ(سرفيس) خط (اللويبدة
خصومه يقولون أنّ توجهاته السياسية متغيرة ، ولم تتبلور في موقف محدد وثبات دائم،وهو في كنف الضبابية والغموض الايجابي ، وينتقد السياسات لكنّه استفاد من التقاطع مع الدولة، صريح جدا، حتى عندما عاد إلى العمل الحكوميّ بحكومة هاني الملقي قال عدت لتحسين دخلي وتقاعدي؛ ... ويتابع خصومة ومع ذلك لايمكن ضبطة متلبسًا بالمواقف الخشبية، حيث يتراجع إذا في الجو غيم، ويغتنم الظروف، ويقوم بهجمة مرتدة إن عاكسته، وإذا تقوقع في صف المعارضة فويل لخصومه السياسيين من لسانه السليط، حتى وهو في كرسي المسؤولية فصعب أن تنال منه ؛ لأنه يشبه ممثل غير مقيم لدى الدوار الرابع
وفي المحصلة هو سياسيّ غير صداميّ، رغم أنه كان في حكومات لها مخالب وانياب ، وواجهت عاصفة غضب الشارع التي خرج منها بضربة حظ، يضاف إلى ذلك؛ أنّه يحمل براغماتيّة ويدرك طبيعة المزايدات المجانيّة لتعطيل عمل غريم سياسيّ قد يُحسب له ما قد يخسره، وكان برلمانيّ يفحص السياسيين بعناية،.. خصومه يقولون عنه أنّه استفاد من الدولة، ومع ذلك ينتقد، وتوزير اصهارة بوابة انتقاد واسعة له رغم انه للانصاف ليس له علاقة حسب المطلعين من قريب او بعيد بهذا الموضوع
ولكن نشطاء مواقع التواصل الاجتماعيّ الذين ادّعوا أن (توزيرهم) جاء بحكم نفوذ العبادي وعلاقاته مع الدولة، وبالرغم من قساوة النقد والهجوم؛ إلّا أنّه يرفض منازلتهم في ساحات المحاكم، ومع رفع سقف الانتقاد القاسي، ولم يصل يومًا أبواب المحاكم ، ويسجّل قضية ضد أحد ابدا ويقول السياسي يجب ان يتحمل النقد
المقرّبون يقولون أنّ (العبادي) بلا خصومات مع أحد، وأصدقاؤه كُثر ام الاعداء الله اعلم ، كما أنّه لم يلتحق بصفوف النخب البراجوازيّة أو يقدم أوراق اعتماده لها في صالوناتها، وكواليسها وهو فنانًا بارعًا في مراوغة اللحظة والخصوم والصبر حتى الوقت المناسب حيث انه قارىء نهم لمختلف الكتب السياسية . .
ظلّ موالي ومعارض بخانة ابن الشعب يحمل انفاس خريج (الكتاتيب) في(رأس العين) وفي المواقف يجيد حقًا دوره كـ"ساعي البريد" بسيط، ولم يتغير، وهو حامل الرسائل الكتوم للجميع ، وإن كان هذا الدور لا يتطلب بالمرة أي مهارات استثنائيّة، لكن عندما يكون خارج وظيفته الاستشاريّة، وخارج مهمة حمل الرسائل السياسية ، بذكاء عبر الرد في الوقت المناسب
صاحب كتاب" السياسي الامين" حياته مليئة بالتحديات ومفعمة بالإلهام والمغامرات ،التي تحتاج إلى شجاعة استثنائيّة وصدق نادر، والدكتور (العبادي) يقدم لنا هذا العمل (كتاب السياسي الأمين)؛ ليوثّق التحولات والتغيّرات، والاسرار ، وقد كشف في الكتاب اسرار ما وراء الستار " والبلاوي" وهذا غيض فيض ، بما في صدرة من اسرار كبرى ، وفي الكتاب رفع سقف الانتقاد القاسي بقوة ، وقال هذا اللي صار ، بملفات وطنية كبرى ..،.وبحفل توقيع الكتاب بشومان جمع شخصيات قريبة من الدولة ، ومعارضين ووجهاء وحملة اقلام ..الخ .
في الكتاب يحمل العبادي ذاكرةً حديديًة، ويستذكر تفاصيل التفاصيل بلا حدود، ولديه كلّ أرشيف الشخصيات والتواريخ مدوّنة في ذاكرته، وفي كتاب "السياسيّ الأمين" لم يكتب فيه من البلاوي والأسرار الا القليل ، وآثر أن لايكون كتاب مذكرات بالمعنى المنهجيّ- الكلاسيكيّ أو سيرة ذاتيّة خالية من المبالغات والخفايا أو استعراض بطولات، ويقول (أبوصالح) :" هذا الكتاب أقرب إلى رواية أو قصة طويلة ، فيها خليط من السرد والتسجيل المجرد".
ومع أنّه يروي قصته بأناقة؛ إلا أنّ نص الكتاب يجذبك خصوصًا أن مؤلفه يحمل ماجستير في الدبلوماسية واستراتيجيّة المفاوضات ، وعندما تجلجل ضحكته؛ يظهر كـ"سيد" في مكتبه الذي يجمع المعارض والموالي والبرجوازيّ، فيما انخراطه في الحياة اجتماعية لم يتقلص، ليس لأنه بارع مثلاً في كتم الأسرار؛ بل لأنه متشبع بنهج أبناء الأحياء الشعبيّة وظل عروبي حتى النخاع بقضايا الامة .
العبادي مدخن شرس ينافح عن قضاياه بصورة أشرس منزلة في ضاحية الرشيد معروف للجميع ،والحقيقة أنّ (أبو لونا) وهكذا يحب أن يُكنى شخص مرح ،روحه تحب الضحك والسخرية والابتسام، وتحدث معه عشرات القصص أسبوعيًّا، بينها نوادر عدة، وانتقادات قاسية في هذا الإطار، لكنه يتقبلها بصدر رحب وواسع لا حدود له.
مهندس السياسات لكن بالروب الأبيض؛ وهو رداء ناصع ما زاد في " شعبيته" -إن صح التعبير- ميله الدائم للتململ، للسخط المفاجئ، ولانفجار صوته بلا تمهيد، والتحمل ، وعدم الخصام ، يفيض بحب الأردن، حيث كانت لديه روح المواطنة بالفطرة، التي مارسها في كل المواقع التي خدم فيها الوطن.
ويقول ابو صالح :"قد يكون الحظ هو ما حقق لي ذاتي، لكنه حظ ممتزج بالإصرار والتحدي ، وفي النهاية تظل شخصية العبادي جدلية بين ما يعتبرة مظلوم ام.. امر اخر براي الخصوم ، ولانه لم يصل الى الدوار الرابع رئيسا للوزراء، سؤال مطروح ومن قال انه حقق احلامة كموالي او يخالف السياسات الحكومية ، في الجعبة الكثير الكثير وليس كل ما يعرف يقال!"