الدباس يكتب: الإستثمار بين المَرْجُوّ والتثبيط
هاني الدباس
في منتصف التطورات الإقليمية المتسارعة، في منطقة تعج بالتوترات، يأتي الأردن كواحة من الإستقرار السياسي والأمني مستندًا إلى موقعه الجغرافي الإستراتيجي ودوره الإقليمي المميز، ومع احتمالات عودة تأثير سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة إلى الساحة الدولية، تتعاظم أهمية استغلال كل الفرص الممكنة بأساليب غير تقليدية للحفاظ على المستثمرين الحاليين وجذب استثمارات جديدة، بما يعزز مكانة الأردن كمركز اقتصادي واستثماري إقليمي.
ومع ذلك، تظل العقبات الإدارية والتنظيمية حجر عثرة أمام تحقيق هذا الطموح، ما يستدعي حلولاً جذرية وجريئة تتجاوز الإصلاحات السطحية. أثق تماماً بدولة الرئيس حسان وبفريقه الوزاري وبكفاءتهم في قيادة ملف الإستثمار بكفاءة واقتدار. أثق أيضا بالتشريعات الناظمة لهذا الملف وأجزم أنها وضعت لتكون عملية الإستثمار سلسة ويسيرة، غير أن المشكلة تكمن في أكثر من حلقة في سلسلة هذا الملف الهام.
أولها أن التحدي لا يُختزل في النصوص القانونية ولا في الإطار التنظيمي، بل في خلل التطبيق العملي والتنفيذ الذي يتمثّل في وجود فجوة في التواصل الفعّال أو التنفيذ على المستويات الأدنى، وفي نقص تأهيل الموظفين ومحاسبتهم، وضعف تدريبهم وانتفاء محاسبتهم بما يؤدي إلى تراكم الأخطاء وتعطيل الإجراءات، بموازاة افتقارهم لبرامج تدريبية دورية وتراخي في تفعيل نظام تقييم الأداء. غالباً ما تكون تقارير الموظفين غير دقيقة ومظللة ولا تدعم متخذ القرار، وتكون التوصيات التي ترفع للوزراء إمّا مبهمة أو تفتقد للحلول العملية، بينما كان من الضروري اعتماد آليات تدقيق للتوصيات قبل رفعها، مع إشراك المستثمر في النقاشات لضمان وضوح الطلبات والحلول، حيث يبرز التأخير في اتخاذ القرارات نتيجة ضعف إداري او كيدي ليؤثر في المحصّلة على بيئة الإستثمار. ينبغي على الحكومة التي نعتقد باهتمامها في ملف الاستثمار، استحداث نظام "خدمة سريعة” لقضايا المستثمرين ذات الأولوية مع مؤشرات أداء زمنية محددة، ووضع أنظمة بديلة (اختيارية) تراعي ظروف المستثمرين، مع إطار واضح يحمي مصالح جميع الأطراف، إذا وجدت أن القوانين لم تكن مرنة بشكل كاف لدعم المستثمر، أما ما يلقاه المستثمر من إجراءات إقصائية في الوقت الحالي، على غرار "اذهب أنت وربك فقاتلا”، فإن ذلك يساهم بشكل كبير في توليد شعور المستثمر بالإهمال وعدم المساندة، وهو أمر خطير قد يؤدي إلى هروب الاستثمارات.
إن إنشاء وحدة متخصصة ذات صلاحيات شاملة ومباشرة، تكون مرتبطة بمكتب الوزير نفسه، وتتمتع بالمرونة والصلاحية للتدخل السريع على المستويين الأفقي بين المؤسسات المختلفة والعمودي داخل المؤسسة الواحدة، ويجب أن تكون هذه الوحدة قادرة على إزالة أي عائق إداري أو تنظيمي يعترض طريق المستثمرين، دون تعقيدات بيروقراطية تُبدد الوقت والجهد، هو اول الخطوات الحصيفة، فيما تأتي المساءلة حجر الأساس لأي عملية إصلاح، حيث ينبغي لكل موظف يتعامل مع المستثمرين أن يكون مسؤولاً عن أدائه بشكل مباشر، مع فرض عقوبات صارمة وفورية على كل من يثبت تقصيره أو تعمده تعطيل معاملات المستثمرين أو التعامل معهم بفوقية.
لا يمكن التسامح مع ممارسات الإهمال أو الكيدية، لأنها لا تسيء فقط للمستثمرين، بل تضرب في صميم سمعة الأردن كوجهة استثمارية جاذبة. يجب أن تكون هذه العقوبات رادعة بما يكفي لتضمن الالتزام التام بتقديم خدمات عالية الجودة. على الحكومة أن تتبنى استراتيجيات غير تقليدية لاستقطاب الاستثمار، تتجاوز الأنماط التقليدية. هذا يشمل تقديم حوافز متميزة، توفير تسهيلات نوعية، وابتكار مسارات مرنة تتجاوز أي عقبات قانونية أو تنظيمية، شريطة أن لا تؤثر هذه الإجراءات على مصالح الدولة. مثل هذه الخطوات تعكس جديّة الدولة في خلق بيئة استثمارية تنافسية، وتعيد بناء الثقة مع المستثمرين.
للأسف، ومن خلال اطلاعي المباشر، يعاني عدد من كبار المستثمرين في الأردن من عراقيل تكاد أن تكون عبثية وغير منطقية، بل وأحيانًا تأخذ طابعًا كيديًا. ينتظر المستثمر شهورًا طويلة للحصول على ردود على استفسارات بسيطة أو مطالب أساسية، ويُعامل أحيانًا بفوقية لا مبرر لها، والمفارقة أنه عند الوقوف على هذه الاستفسارات أو المطالب وحلها، غالبًا ما يتضح أنها تُحل بسهولة ودون أي مساس بالفائدة المرجوة للدولة من الإستثمار. لا تؤدي هذه الممارسات فقط إلى تعطيل عجلة الاستثمار، بل تسهم في تنفير المستثمرين الذين يمكن أن يكونوا سفراء الأردن في الخارج. في نهاية المطاف، لا يمكن للأردن أن يتحمل تبعات خسارة المستثمرين أو تراجع جاذبيته الاستثمارية في ظل التحديات الاقتصادية الحالية.
الاستثمار ليس مجرد خيار اقتصادي؛ بل هو ضرورة وطنية للتصدي للبطالة، دعم النمو الاقتصادي، وتحقيق الاستفادة القصوى من استقرار الأردن وموقعه الإقليمي الفريد. بناء بيئة استثمارية متطورة وشفافة يتطلب اولا وآخرا صاحب قرار موءهل ومساءل من ادنى رتبة إلى اعلى رتبة ليتمكن من اخذ قرارات جريئة وفورية، وإجراءات حازمة تعيد للأردن مكانته كوجهة استثمارية عالمية…. أدرك أن المقالات من هذا النوع قد لا تكون كافية لحل مثل هذه القضايا، إلا إذا وصلت إلى أصحاب القرار الذين يضعون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. وأنا على يقين بأنهم، عند قراءتها، سيتعمقون في فهم ما بين السطور