"ادرس الماضي إذا أردت أن تستشرف المستقبل" كونفوشيوس

د. سناء عبابنة

لطالما كان القول المأثور "ادرس الماضي إذا أردت أن تستشرف المستقبل" أحد المفاتيح لفهم تعقيدات الحاضر، خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي شهدت تاريخًا طويلًا من الصراعات والتحولات. هذا القول ينطبق بشكل خاص على الوضع الراهن في سوريا والمنطقة العربية، حيث يبدو أن الماضي ما زال يلقي بظلاله الثقيلة على الواقع الحالي، مما يجعل التنبؤ بالمستقبل أمرًا محفوفًا بالتحديات.

عندما نعود إلى تاريخ سوريا والمنطقة، نجد أن الأحداث التي مرّت بها كانت محورية في تشكيل معالم الوضع الحالي. من الاستعمار الفرنسي لسوريا في القرن العشرين، إلى استقلالها ثم انخراطها في الصراعات الإقليمية والعالمية، وصولاً إلى الانقلاب العسكري الذي وقع في عام 1963، والذي جعل من حزب البعث الحاكم لمدة طويلة، كل تلك المحطات تركت بصماتها في تشكيل الوعي الجماعي والسياسي في سوريا والمنطقة.

وفي السنوات الأخيرة، شكلت بداية الأزمة السورية في 2011 تحولًا دراماتيكيًا. فالأحداث التي بدأت بمظاهرات شعبية سلمية للمطالبة بالإصلاحات وتحولت إلى حرب أهلية مدمرة، لم تكن مجرد صراع داخلي، بل كانت بمثابة مرآة لصراعات إقليمية ودولية، حيث تدخّل العديد من القوى الكبرى، من الولايات المتحدة إلى روسيا، ومن إيران إلى تركيا، مما أعطى هذه الأزمة طابعًا معقدًا متعدد الأبعاد.

بعد مرور أكثر من عقد على اندلاع الصراع السوري، أصبح جليًا أن أي محاولة لاستشراف مستقبل سوريا والمنطقة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار دور القوى الإقليمية والدولية. روسيا وإيران وتركيا، على سبيل المثال، قد فرضت نفسها كقوى محورية في الأزمة السورية، كل واحدة منها تسعى إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. لكن هذا التعدد في الأطراف المتدخلة يعكس أيضًا حالة من التشظي في السياسة الإقليمية، وهو ما قد يؤدي إلى بقاء الوضع السوري في حالة من الجمود أو التوتر الدائم.

من جهة أخرى، تؤكد تجارب التاريخ أن الفوضى والحروب الأهلية تترك وراءها آثارًا عميقة تتطلب وقتًا طويلًا للشفاء. سوريا اليوم تبدو وكأنها "دولة مأزومة" تتصارع بين الحفاظ على مؤسساتها الرسمية وبين محاولات إعادة بناء المجتمع المدني الذي تمزق بسبب الحرب. ولا شك أن إعادة الإعمار ستكون مهمة شاقة في ظل وجود قوى متنافسة تسعى للهيمنة على مختلف الأراضي والموارد السورية.

في قراءة أوسع للمنطقة، تبرز العديد من العوامل التي قد تحدد مسارات المستقبل. على الرغم من التحديات الهائلة التي تواجهها العديد من الدول العربية، بما في ذلك الحروب المستمرة، والانقسامات الداخلية، والتحديات الاقتصادية، هناك أيضًا بوادر أمل. ففي السنوات الأخيرة، بدأت بعض الدول العربية في اتخاذ خطوات نحو التعاون الإقليمي، مثل العودة التدريجية للعلاقات بين بعض الدول العربية وسوريا، وهو ما يعكس رغبة في تخفيف التوترات وتحقيق الاستقرار.

لكن على الجانب الآخر، لا تزال قوى إقليمية مثل إيران وإسرائيل تشكل عوامل عدم استقرار في المنطقة، حيث تعكس خلافات هذه القوى تحولات قد تؤدي إلى نشوب نزاعات جديدة. لذلك، يبقى السؤال: هل يمكن للمنطقة العربية أن تتجاوز أزماتها التاريخية؟ وهل هناك فرصة لبناء مستقبل يسوده السلام والاستقرار؟

إن الدروس المستفادة من تاريخ سوريا والمنطقة لا تقتصر فقط على فهم أسباب الصراع، بل أيضًا على ضرورة إدارة التوازنات الدولية والإقليمية بشكل أكثر حكمة. فالماضي يعكس واقعًا دائمًا يتسم بالتحولات الجذرية، ولكن أيضًا بالصراعات التي لا تنتهي بسهولة. إن السلام في المنطقة يحتاج إلى معالجة الأسباب الجذرية للنزاعات، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

وعلى الرغم من التفاؤل الحذر الذي يواكب أي حديث عن المستقبل، يبقى العامل الأساسي هو إرادة الشعوب نفسها. فالشعب السوري، كما شعوب المنطقة الأخرى، يحتاج إلى فرصة حقيقية لإعادة بناء ما دمرته الحروب، مع التأكيد على ضرورة احترام حقوق الإنسان وتطبيق العدالة الاجتماعية.

وختاما إذا كان الماضي هو مرآة الحاضر، فإن المستقبل في المنطقة العربية سيظل مشروطًا بالقدرة على تجاوز آثار هذا الماضي واستيعاب دروسه. سوريا ومنطقة الشرق الأوسط بحاجة إلى استراتيجيات جديدة قادرة على دفع عجلة التقدم في بيئة مليئة بالتحديات. فكما يقول القول: "ادرس الماضي إذا أردت أن تستشرف المستقبل"، فإن دراسة هذه الحقائق والتحديات قد تفتح أمامنا أبوابًا لفهم أعمق لمسارات السلام والاستقرار في المنطقة.