اليوم التالي للحرب

إسماعيل الشريف

«المرتزقة لا يبنون الأوطان، بل يمتصون حياته ويمحون مستقبله تمامًا كما تفعل الطفيليات بمضيفها»، علي الموسوي، صحفي لبناني.

بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق عام 2003، برزت شركات المرتزقة - وخاصة «بلاك ووتر» سيئة الذكر - كأداة محورية في إدارة الاحتلال، وقد لعبت هذه الشركات دورًا استراتيجيًّا معقدًا يتجاوز الدعم اللوجستي التقليدي؛ حيث تولت مهام حساسة تشمل حماية المنشآت الحيوية، وتنفيذ عمليات عسكرية سرية بالنيابة عن قوات الاحتلال، وارتكبت مجازر مروعة بحق المدنيين، وقد ساهمت انتهاكاتها الممنهجة في تعميق معاناة الشعب العراقي وإطالة أمد الصراع.

يبدو أن سيناريو مشابهًا يتم التخطيط له في غزة، بعد حرب إبادة جماعية غير مسبوقة في وحشيتها، استخدمت فيها آلة دمار لم يشهدها التاريخ الحديث، فرغم محاولات الاحتلال إضعاف حركة حماس عسكريًّا وسياسيًّا، إلا أنه واجه إخفاقات جوهرية في تحقيق أهدافه المعلنة، سواء في تدمير الحركة أو تحرير أسراه من خلال الضغط العسكري.

أصبح واضحًا أن حماس ستظل موجودة بعد الحرب، لكن الهدف تحول من تدميرها إلى تقليص قدراتها العسكرية، وفرض ترتيبات تضمن عدم إدارتها للقطاع أو إعادة تسليح نفسها، مع محاولة إجبارها على المفاوضات وفق الشروط الأمريكية-الصهيونية.

يواجه الاحتلال معضلة استراتيجية في إدارة قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار، فالسلطة الفلسطينية ترفض العودة إلى غزة على دبابات الاحتلال، كما رفضت الدول العربية تولي قوات حفظ سلام في القطاع أو المشاركة في إعادة الإعمار دون ضمانات أمريكية-صهيونية واضحة تمنع تكرار ما حدث. كذلك، فشلت محاولات الاحتلال في إقناع العشائر الغزية بتولي إدارة القطاع، إذ تخشى العشائر من الاشتباك مع حماس.

من جهة أخرى، يبدو الاحتلال غير مستعد لتحمل التكلفة المالية والعسكرية لإعادة احتلال غزة أو إدارتها، خاصة بعدما خرج منها يجر أذيال الخيبة عام 2005.

في ظل هذه المعطيات، تصاعد الحديث عن تشكيل لجنة دولية لإدارة القطاع، مع احتمالية إقناع السلطة الفلسطينية أو بعض الدول العربية بالانضمام إلى تلك اللجنة.

يلوح في الأفق سيناريو إسناد إدارة القطاع لشركات المرتزقة، خاصة مع المؤشرات التي تدعم هذا السيناريو، مثل منع الأونروا من العمل في فلسطين المحتلة. ستبدأ هذه الشركات بمرحلة تجريبية تشمل توزيع المساعدات الإنسانية للسكان المنكوبين؛ حيث ستتولى إدخال المساعدات ونقلها وحماية القوافل، بالإضافة إلى تحديد نقاط التوزيع ضمن مناطق محددة داخل القطاع.

هذا النهج سيؤدي إلى تقسيم غزة إلى كانتونات صغيرة، ولاحقًا ستتوسع الشركات في تأمين هذه العمليات، مما يمنع حماس من تولي مسؤولية إدارة المساعدات، ويجنب الاحتلال أي مخاطر مباشرة، في الوقت الذي يحاول فيه تحسين صورته أمام المجتمع الدولي.

إذا نجحت هذه التجربة، فمن المتوقع أن تنتقل هذه الشركات للإشراف على خدمات أخرى مثل التعليم والصحة، ثم تتوسع لتشمل إدارة جميع الخدمات الأساسية في القطاع، مما يعزز سيطرتها على الحياة اليومية للسكان.

في الوقت نفسه، يُتوقع أن تبقى قوات الاحتلال متمركزة في شمال القطاع ومحور فيلادلفيا، مع استمرار عمليات التهجير القسرية في الشمال، وعمليات تهجير «ناعمة» في باقي القطاع، من خلال إغراء السكان بالهجرة إلى دول مختلفة حول العالم.

السؤال الجوهري يبقى: هل يمكن لهذا النموذج أن ينجح في غزة، بعدما أثبت فشله الذريع في تجارب سابقة كالعراق وليبيا؟ يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، لكن بتعقيدات متزايدة وتداعيات أكثر غموضًا.