لبنانُ: وطنُ الجراحِ المفتوحةِ وآهاتُ الطفولةِ المصلوبةِ على أسوارِ الموت
يحيى الحموري
لبنانُ، يا زهرةَ الشرقِ وأيقونةَ المجدِ، يا أرضَ الأرزِ التي كانت شاهدةً على تاريخٍ متجذّرٍ في الصمودِ والنقاء، ماذا فعلتِ لتُسحقي بهذا الحجمِ من الحقدِ والبغضاء؟ ما ذنبُ شوارعِكِ القديمةِ التي حوت حكاياتِ الأجيال؟ وما خطيئةُ بيوتكِ البريئةِ التي كانت تحتضن أحلامَ الأطفال؟
اليومَ، أطلُّ على مشهدٍ يفوق قدرةَ العيونِ على الاحتمال. دمارٌ شاملٌ يلتهمُ كلَّ شيء: شوارعٌ مطمورةٌ تحتَ الركامِ، أحياءٌ انطوتْ عليها غيومُ النارِ، وأرضٌ تبكي دموعًا حمراءَ كأنها تنادي السماءَ بالثأر.
إسرائيلُ، تلكَ الدولةُ التي ولِدَتْ من رحمِ الخديعةِ وغُذّيتْ بدماءِ الأبرياءِ، كشفتْ عن حقدٍ لا حدَّ له. جيشٌ لئيمٌ، حقيرٌ، متوحشٌ، لا يحملُ سوى لغةِ الخرابِ والسلاح. ماذا يمكنُ أن يُقالَ عن كيانٍ يعيشُ على المذبحةِ كأنها ماءُ حياته؟
قانا وبنت جبيل والضاحية الجنوبية، كلها أسماءٌ لم تعد تشيرُ إلى مدنٍ، بل إلى مقابرَ مفتوحةٍ. أرواحٌ بريئةٌ هامت في السماءِ قبل أن تعرفَ من الذي أطفأ ضوءَ حياتها. أطفالٌ قضوا دون أن يكتملَ نطقُهم الأولُ، وأحلامٌ دُفنت تحت أنقاضِ بيوتٍ كانت بالأمسِ القريبِ تملأها الضحكاتُ.
يا لبنانُ، ماذا أقولُ لمدنكِ الجريحة؟ أأواسي حجارتَكِ المتناثرةَ، أم أرثي شجرَكِ الذي انكسرَ تحت وطأةِ القصفِ؟ كيف أعبّرُ عن وجعي وأنا أرى دمعَ الأرزِ يُسكبُ بحرقةٍ على ما فقدتِ من جمالٍ وأمانٍ؟
هذا الكيانُ الإسرائيليُّ النذلُ، لا يؤتمنُ على شيءٍ. وجودُه ذاتهُ لعنةٌ تمشي على الأرضِ، عقربٌ سامٌّ يلدغُ كلَّ ما هو حيٌّ، غولٌ لا يعرفُ الشبعَ من دماءِ الأبرياءِ. هو كيانٌ قامَ على الذبحِ واستمرَّ على الخرابِ، فلا يعرفُ لغةً سوى لغةِ الموتِ، ولا يقيمُ حضارةً إلا على أنقاضِ الأحلامِ.
أيُّ حزنٍ هذا الذي غمرَ لبنانَ؟ أيُّ قلبٍ يستطيعُ أن يحتملَ مشاهدَ كهذه دون أن يتهشّم؟ لقد قتلوا الأملَ في كلِّ زاويةٍ من أرضكِ، وجعلوا الهواءَ مشبعًا برائحةِ الموتِ واليأسِ. من قانا إلى بنت جبيل، ومن الجنوبِ إلى الشمالِ، المشهدُ واحدٌ: دمارٌ لا يُوصفُ، وجراحٌ لا تلتئمُ، وقلوبٌ تنتحبُ بصمتٍ.
لبنانُ، قلوبُنا معكِ، ولكن ما جدوى القلوبِ حين تكونُ السماءُ خرساءَ والأرضُ مقيدةً؟ ما جدوى الكلماتِ حين يكونُ العدوُّ بلا أخلاقٍ، بلا ضميرٍ، بلا إنسانيةٍ؟
أيا لبنانُ، أنتَ وطنُ الكبرياءِ، ولن يسقطَ شموخُكِ، حتى لو تجبّروا وأمعنوا في خرابِكِ. أنتِ باقٍ، كالأرزِ، كالحلمِ الذي لا يموتُ. لكنَّ الحزنَ باقٍ، والجرحَ نازفٌ، والعدوَّ… عدوُّكِ، سيظلُّ وصمةَ عارٍ على جبينِ الإنسانيةِ.