عودة (ترامب) وتأثيره على التوازنات الجيوسياسية في المشرق العربي

بقلم - هديل محمد القدسي 

يسعى اليمين الصهيوني المتطرف تحت قيادة (بنيامين نتنياهو) إلى فرض سيطرة احتلالية شاملة على فلسطين التاريخية. ويعتمد هذا التوجه بدوره على المقولة الشهيرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، التي تُعبر بكل وضوح عن الفكرة الأساسية التي بُني عليها المشروع الصهيوني، ولا يخفى على أحد بأنّ هذه الفكرة تتجاهل حقوق الفلسطينيين ووجودهم التاريخي على هذه الأرض، مما يعكس سياسة الاستبعاد والإقصاء التي يتبناها هذا التيار. 

كما أنّ هذه السياسات لا تُظهر فقط تجاهلاً لحقوق الفلسطينيين، بل تعكس أيضاً محاولة لتغيير الواقع الجغرافي والسياسي في المنطقة. وهذا التغيير يزيد من تعقيد الصراع، ويعيق الجهود المبذولة لتحقيق السلام، كما ويفرض تحديات جديدة على المجتمع الدولي في سعيه لتحقيق العدالة والاستقرار في المنطقة.
 
فوفقًا لما أعلنه مؤخراً وزير المالية الإسرائيلي (بتسلئيل سموتريتش)، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية تعمل على توسيع المستوطنات وفرض السيطرة على الأراضي الفلسطينية، مما يثير قلق المجتمع الدولي ويزيد من تفاقم الأوضاع الإنسانية في المنطقة. 
ومن ناحية أخرى، تُعتبر التصريحات التي أدلى بها (سموتريتش) مؤشراً على توجهات خطيرة تجاه الفلسطينيين، حيث تعكس سياسة الاحتلال الرامية إلى تقليص الهوية الوطنية الفلسطينية، وربما طمسها بالكامل. إذ يسعى الاحتلال إلى اعتبار الفلسطينيين مجرد أقلية داخل الدولة، مما يهدد ذلك بطبيعة الحال وجودهم وحقوقهم السياسية. وهذا النوع من التفكير يعكس -دون شك- رؤية ضيقة تهدف إلى نزع حقوق الفلسطينيين، وتقديمهم كجالية عربية غير متساوية مع اليهود.

أما عن فكرة الحكم الذاتي البلدي والتي يتم الترويج لها مؤخرا فلا تعني سوى حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية كمواطنين. فبدلاً من الاعتراف بحقوقهم السياسية والاجتماعية، يتم دفعهم نحو وضعية تهمش وجودهم وتقلل من قيمة هويتهم الوطنية. 

النمو الديمغرافي كابوس يلاحق الاحتلال: 


يمثل النمو الديمغرافي في فلسطين التاريخية واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الكيان الإسرائيلي. حيث تشير الإحصائيات إلى أن عدد الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية قد بلغ نحو (سبعة ملايين) فلسطينيا، مما يقترب من عدد اليهود الذين يعيشون في نفس المنطقة. وهذا التوازن الديمغرافي يثير قلقًا كبيرًا في الأوساط الإسرائيلية، حيث يُعتبر وجود أعداد متساوية من الفلسطينيين واليهود تهديدًا للمشروع الصهيوني الذي يسعى للحفاظ على "نقاء" الدولة اليهودية.

بالإضافة إلى ذلك، هناك أعداد كبيرة من الفلسطينيين الذين يعيشون خارج فلسطين، والتي تقدر بحوالي (سبعة ملايين) آخرين. فهذا العدد الكبير من الفلسطينيين، سواء أكان داخل الوطن أم خارجه، يشكل تحديًا إضافيًا للكيان الإسرائيلي، حيث يُعبر عن الهوية الوطنية الفلسطينية المتجذرة والرغبة في العودة إلى الوطن.

أما فيما يتعلّق بما حدث في (مايو 2018)، فقد أدلى (أوري مينديز)، نائب رئيس الإدارة المدنية الإسرائيلية آنذاك، بتصريح مثير حول التوقعات السكانية للفلسطينيين في المنطقة الممتدة بين البحر والنهر. حيث توقع أن يصل عدد الفلسطينيين بحلول عام (2050) إلى أكثر من (13 مليون) نسمة، بينما سيبلغ عدد اليهود نحو (10.6) مليون. وهذا التقدير يعكس القلق المتزايد لدى الجانب الإسرائيلي بشأن التغيرات الديمغرافية المحتملة، والتي قد تؤثر بشكل كبير على التوازن السكاني في المنطقة.

كما تُظهر هذه التوقعات المخاوف الإسرائيلية من الزيادة السكانية للفلسطينيين، وما قد يترتب على ذلك من تأثيرات سياسية واجتماعية. فالتغيرات الديمغرافية تؤثر ليس فقط على التركيبة السكانية، بل أيضًا على الديناميكيات السياسية والاقتصادية في المنطقة. وبالتالي، تثير هذه المعطيات تساؤلات حول كيفية تعامل السلطات الإسرائيلية مع هذه التغيرات، وما إذا كانت ستؤثر على السياسات المستقبلية في إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

إذ تعتبر هذه الزيادة السكانية "قنبلة ديمغرافية" تهدد المشروع الصهيوني، بحيث يدرك الاحتلال أن مواجهة هذا التحدي تتطلب استراتيجيات متنوعة. إذا قرر الاحتلال ضم الأراضي مع سكانها الفلسطينيين، فسيتعين عليه الاعتراف بهم كمواطنين متساوين مع اليهود.

لذا، تسعى المخططات الإسرائيلية إلى معالجة هذا التحدي الديمغرافي من خلال مجموعة من السياسات، كتعزيز الاستيطان اليهودي وتهجير الفلسطينيين، تحت ضغط الحروب وسياسات التعطيش والتجويع والإبادة الجماعية ومصادرة الأراضي الزراعية. وهذا كلّه بهدف الحفاظ على السيطرة الإسرائيلية على المنطقة.

كيف ينجح الاحتلال في تحقيق ذلك؟ 

في السنوات الأخيرة، شهدنا تصعيدًا غير مسبوق في سياسات الاحتلال الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، مما يثير تساؤلات حول العوامل التي تدفع وتشجع هذا السلوك. ومن بين هذه العوامل -على سبيل الذكر لا الحصر- يمكننا الإشارة إلى انحيازات الإدارة الأميركية السابقة التي دعمت الإبادة الجماعية في غزة، من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية، بالإضافة لحرصها المتقطع على إدخال بعض المساعدات أو الحديث عن حل الدولتين، والتي كانت لمجرد تشتيت الانتباه وإخفاء الحقيقة. كما أنّ هذه التصرفات تهدف إلى التغطية على جرائم الاحتلال الذي يستمر من خلالها بالقتل والتدمير الممنهج حتى الآن. 

ومع بداية إدارة أميركية جديدة برئاسة (دونالد ترامب) في (يناير/كانون الثاني 2025)، أصبحت المخاوف تتزايد بشأن مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إذ يُعتبر (ترامب) شخصية مثيرة للجدل، حيث أظهر دعماً واضحاً لإسرائيل خلال حملته الانتخابية، مما أثار تساؤلات حول كيفية تأثير ذلك على السياسة الأميركية في المنطقة. 

 يسعى (ترامب) إلى توسيع حدود إسرائيل الجغرافية، وهو ما يعني بالضرورة التوسع على حساب الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. حيث  أشار (سموتريتش) إلى أنه في ظل حقبة الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) الجديدة، حان الوقت لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية بحلول العام (2025)، مؤكدًا أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من التهديد المتمثل في إقامة دولة فلسطينية. 

وهذا ليس غريبًا على (ترامب)؛ فهو من أطلق صفقة القرن في (يناير 2020)، والتي تتضمن اقتراحات لضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية إلى إسرائيل، مع فرض سيطرتها عليها. كما نصّت على إنشاء كيان فلسطيني يفتقر إلى الجيش وبدون أي تحكم في حدوده البرية أو الجوية أو البحرية، لصالح إسرائيل. إضافة إلى ذلك، قام بالاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل وبالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان المحتلة.

وما يزيد من القلق في هذا السياق أن الشخصيات التي اختارها (ترامب) لتولي المناصب في إدارته المقبلة، سواء في وزارة الخارجية أو الدفاع أو مستشار الأمن القومي أو مدير المخابرات الوطنية أو السفير الأميركي في إسرائيل، تنتمي إلى تيار يميني متطرف، يؤمن بفكرة إسرائيل الكبرى الممتدة من النيل إلى الفرات.

ولا يقتصر الأمر فقط على الأراضي الفلسطينية، فهناك مخاوف من أن تسعى الإدارة الجديدة لاستهداف أراضٍ عربية أخرى في لبنان وسوريا والأردن، مما قد يزيد من تعقيد الوضع الإقليمي. وهذا النوع من السياسات قد يعزز موقف الاحتلال ويزيد من حدة الصراع، مما يتطلب من المجتمع الدولي اتخاذ موقف واضح للدفاع عن حقوق الفلسطينيين واستقرار المنطقة. 


في الختام، يمكننا القول بأن عودة (ترامب) إلى الساحة السياسية الأمريكية تعكس تأثيرات عميقة على التوازنات الجيوسياسية في المشرق العربي، كما أنّ سياساته المحتملة في دعم الحلفاء التقليديين مثل إسرائيل، قد تعيد تشكيل الديناميكيات الإقليمية بشكل كبير. ومن الضروري أن تتابع الدول العربية هذه التطورات عن كثب، وأن تعيد تقييم استراتيجياتها؛ للتكيف مع أي تغييرات قد تطرأ على السياسة الخارجية الأمريكية. ففي النهاية، ستظل العلاقات الدولية في المشرق العربي معقدة ومتداخلة، مما يتطلب من جميع الأطراف التفكير بعمق في كيفية التعامل مع هذه التحديات الجديدة واستكشاف فرص التعاون والحوار لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.