ستارلينك.. من مشروع لخدمة سكان الأرض إلى أداة عسكرية بيد ترامب

انطلق مشروع ستارلينك عام 2015 كفكرة طموحة من إيلون ماسك، تهدف إلى توفير الإنترنت عالي السرعة لجميع سكان الأرض، باستخدام شبكة هائلة من الأقمار الصناعية في المدار المنخفض. وقد تم الترويج للمشروع باعتباره حلًا مبتكرًا يهدف إلى سد الفجوة الرقمية عالميًا، وشملت ميزات المشروع خفض التكاليف، وزيادة السرعة، وتقديم تغطية عالمية غير مسبوقة.

رغم الطابع المدني الذي طُرح به المشروع، إلا أن ستارلينك شهد تحولًا تدريجيًا نحو عسكرة أهدافه، بفعل الشراكة الوثيقة بين شركة سبيس إكس ووزارة الدفاع الأميركية. وقد ظهر هذا التحول بوضوح خلال الصراع الروسي الأوكراني، حيث استخدمت القوات الأوكرانية نظام ستارلينك لتعزيز عملياتها العسكرية.

توفر مشاريع ماسك قدرات لا تستطيع أي حكومة أو شركة أخرى أن تضاهيها، فقد أصبحت متشابكة مع السياسة الخارجية والأمن العالمي، وتزداد خطورة ابتكارات ماسك ستارلينك تحديداً مع فوز ترامب الذي سيطلق العنان لنفوذ ماسك ومزاجه فيما يتناسب مع الأهداف الأمريكية ورؤيتها العسكرية.

إن عسكرة ستارلينك تتجاوز مجرد تقديم خدمات الإنترنت، لتصبح أداة استراتيجية تمكّن الولايات المتحدة وحلفائها من تعزيز هيمنتهم الرقمية والعسكرية. فما بدأ كمشروع مدني لتوسيع الاتصالات العالمية أصبح اليوم عنصرًا أساسيًا في سباق التسلح التكنولوجي. فما هي شبكة ستارلينك، وما هي الأخطار المترتبة على عسكرة هذه الشبكة؟
.
بحلول يوليو 2023، أطلقت سبيس إكس 4519 قمراً صناعياً في المدار، منها 4487 قمراً قيد التشغيل، وفقاً لموقع "سبيس". تخطط الشركة في النهاية لإطلاق حوالي 42000 قمر صناعي، مما يعني أن برنامج ستارلينك قد يحتل أكثر من 80% من سعة المدار الأرضي المنخفض، الذي يمكن أن يتسع لنحو 50 ألف قمر صناعي.

تعكس هذه الخطوة رغبة ماسك في السيطرة على المواقع والترددات المدارية، وهي استراتيجية تهدف إلى ترسيخ احتكار الشركة لسوق تطبيقات الفضاء، كما سنوضح لاحقاً في التقرير.

كيف تعمل ستارلينك؟

تُقدّم شبكة ستارلينك خدمات الإنترنت عبر مجموعة من الأجهزة المخصصة التي تتيح اتصالاً سريعاً وفعالاً بالأقمار الصناعية. تعتمد العملية على تقنيات مبتكرة تتضمن ما يلي:

مكونات الشبكة:

طبق اتصال بالأقمار الصناعية.

جهاز توجيه (Router) يدعم WiFi.

مصدر طاقة وكابلات للتوصيل.

قاعدة تثبيت مصممة لتسهيل وضع الطبق على أسطح مستوية.

آلية العمل:

يتم تثبيت الطبق في مكان مفتوح للحصول على رؤية واضحة للسماء.

صُمم الطبق ليكون ذاتي التوجيه، حيث يبحث تلقائيًا عن أفضل اتصال بالقمر الصناعي المتاح.

بمجرد إعداد الأجهزة، يمكن للمستخدم الاتصال بخدمة الإنترنت وإدارة الشبكة باستخدام تطبيق ستارلينك.

شبكة الأقمار الصناعية:

تعتمد الخدمة على آلاف الأقمار الصناعية الصغيرة التي تدور في مدار أرضي منخفض على ارتفاع يبلغ حوالي 342 ميلاً (550 كيلومترًا) من الأرض. فعلى عكس الأقمار الصناعية التقليدية الكبيرة، تتيح هذه الأقمار الصغيرة تحسينًا كبيرًا في سرعة الإنترنت وتقليل فترة الانتظار.

ما مدى سرعة ستارلينك؟

وفقاً لموقع الشركة، فإن سرعات الإنترنت الفضائي مع "ستارلينك" تتراوح بين 50 ميغابيت و250 ميغابيت في الثانية الواحدة، على مستوى الاستخدام المنزلي، بينما السرعات تصل إلى 350 ميغابيت في الثانية بالنسبة للشركات المشتركة في خدمة Starlink Business.

أين تتوفر ستارلينك؟

تُغطي شبكة ستارلينك حاليًا قارات العالم السبع خلال 40 دولة، بما في ذلك القارة القطبية الجنوبية، لتصبح واحدة من أكثر خدمات الإنترنت انتشارًا عالميًا.


ولدى الولايات المتحدة حق الوصول إلى ستارلينك، وتتوفر خدمة الإنترنت هذه أيضًا في كندا واستراليا ونيوزيلندا، وكذلك في العديد من البلدان في أوروبا، وهذا يشمل فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا.

وبالإضافة إلى تفعيل الخدمة في أوكرانيا لمساعدتهم خلال الحرب مع روسيا، تمت إضافة أيضا العديد من البلدان الأخرى، وتشمل هولندا، والنمسا، وبلجيكا، وأيرلندا، والدنمارك، وسويسرا، والبرتغال، وبولندا، وإيطاليا، والسويد، وجميع دول البلطيق، وعدة دول في أميركا الجنوبية، وقد تم استخدامها في غزة، فقد أعلن إيلون ماسك أن خدمة إنترنت "ستار لينك" قد وفرت في مستشفى ميداني تديره الإمارات بغزة، وقد دفع هذا وزير الاتصالات الإسرائيلي حينها شلومو كرحي إلى التصريح بأن "إسرائيل ستستخدم كل الوسائل المتاحة لها لمحاربة هذا".

في اتفاقية المستخدم أكدت شركة ستارلينك أن خدمتها ليست مصممة أو مخصصة للاستخدام العسكري أو مع الأسلحة. وأضافت ستارلينك أنه في حال وجدت شركة SpaceX أن أحد أجهزتها يُستخدَم من جانب أطراف خاضعة للعقوبات أو غير مُصرَّح لها، فإنَّ الشركة تجري تحقيقاً وقد تلغي تفعيل الجهاز.

وبالفعل في وقت معين خلال الصراع في أوكرانيا، اختار ماسك تقييد وصول أوكرانيا إلى "ستارلينك"، بعد أن أظهر في البداية دعمًا كاملًا لأوكرانيا، لكنه في أحد الأيام اتخذ قرارًا جريئًا بتقييد وصول القوات الأوكرانية إلى شبكة "ستارلينك"، معرقلًا بذلك أي محاولة لشن هجوم على القوات الروسية في شبه جزيرة القرم، فوجدت القوات الأوكرانية التي تتقدم إلى المناطق المتنازع عليها في الجنوب نفسها فجأة غير قادرة على التواصل. 

حينها برر ماسك هذا القرار بخوفه من اندلاع حرب عالمية ثالثة، كما اقترح خطة سلام تتضمن بعض التنازلات لصالح روسيا. ولا أحد يعلم الحقيقة فعلاً من وراء فعل ماسك حينها.

نقطة توفر خدمة الإنترنت من Starlink لسكان مدينة بيلا تسيركفا، أوكرانيا – shutterstock
لكن ما نعرفه أن مشروع ستارلينك تم عسكرته قبل الحرب الأوكرانية، بفعل التعاون المسبق بين شركة سبيس إكس المالكه له والجيش الأمريكي، وما فعلته الحرب الأوكرانية إلا أنها لفتت الأنظار إلى هذه العسكرة بوضوح مع استخدام الشبكة من قبل الجيش الأوكراني في حربه مع روسيا، تم تقديم Starlink في البداية مجاناً للقوات الأوكرانية بعد الغزو الروسي للبلاد، وتم تمويله لاحقاً من قبل البنتاغون.

وقد اعترف وزير التحول الرقمي الأوكراني ميخايلو فيدوروف بأن "تقنيات ستارلينك غيرت هذه الحرب"، إذ أصبحت ستارلينك وسيلة تكنولوجية حاسمة للجيش الأوكراني لتحقيق الاتصالات في ساحة المعركة، كما تستخدمها وكالات الاستخبارات الأوكرانية للتأثير على الرأي العام، وحتى الضربات المستهدفة الدقيقة، وتقوم القوات الأوكرانية بربط الطائرات بدون طيار بالقوات البرية من خلال ستارلينك، مما يعزز بشكل كبير فعالية الضربات ضد أهداف عسكرية روسية.

فوفقاً لمقال أكاديمي نشر في مجلة الاستخبارات، فقد بدأت الاختبارات العسكرية لتقنية الإنترنت عبر الأقمار الصناعية من ستارلينك في عام 2018. حيث راقب البنتاغون عن كثب تطورات المشروع منذ البداية، ويبدو أن سبيس إكس كانت تنتظر أن تصبح ستارلينك قوية بما يكفي لكي تكون المؤسسة العسكرية على استعداد لتقديم عقودها الخاصة.

وبالفعل، في مايو/أيار 2019، بعد أن أطلقت سبيس إكس أول أقمار ستارلينك إلى المدار، حصلت الشركة على عقد بقيمة 28 مليون دولار من القوات الجوية الأميركية. تضمن العقد اختبار خدمات الاتصالات عبر الأقمار الصناعية على الطائرات العسكرية.

من ثم تطورت شبكة ستارلينك على مدار خمس سنوات بعدها، وكأنها صارت فجأة غير مخصصة للاستخدام المدني فحسب.

وقد بدأت التجارب على طائرة Beechcraft C-12 Huron ذات المحركين، حيث سجلت الشبكة معدل نقل بيانات بلغ 610 ميغابت في الثانية أثناء الرحلة. لاحقاً، أجريت اختبارات ناجحة على طائرة Lockheed AC-130 الأكبر حجماً.

مع مرور الوقت، توسع التعاون بين ستار لينك و الجيش الأمريكي ليشمل الطائرات المقاتلة الحديثة. في مارس وأبريل 2022، تم اختبار ستارلينك على طائرات الجيل الخامس فائقة السرعة من طراز إف-35 إيه لايتنينج 2. وخلال التدريبات، أبلغ طيارو الجناح المقاتل 388 عن سرعات إنترنت أعلى بـ30 مرة مقارنة بأنظمة الاتصالات التقليدية، مع سهولة في الإعداد استغرقت أقل من 10 دقائق. 

لم تقتصر التجارب على الطيران؛ ففي عام 2020، أثبتت ستارلينك قدرتها على تنسيق العمليات بين مجالات القتال المختلفة. خلال التدريبات، نجحت القوات البرية في إنشاء اتصال مع طائرة نقل بوينغ KC-135 Stratotanker، التي عملت كمقر قيادة متنقل، يتحكم في عملياتها من الجو ويعزز السيطرة والتنسيق بين القوات.

في نفس العام 2020، وقع الجيش الأميركي اتفاقية بحث وتطوير تعاوني مع سبيس إكس لدمج أقمار ستارلينك في شبكة الاتصالات العسكرية وتقييم أدائها. خلص التقييم إلى أن ستارلينك توفر تقنيات مقاومة للتشويش وعالية الدقة، كما يمكن أن تكون بديلاً محتملاً لتقنية GPS. وفي أكتوبر من العام نفسه، حصلت سبيس إكس على عقد جديد بقيمة 29.6 مليون دولار بموجب اتفاقية المرحلة الثانية للإطلاق الفضائي للأمن القومي، ما سمح لقوة الفضاء الأميركية بمراقبة البيانات من بعثات الشركة المدنية والتجارية.

في مايو 2022، قامت قوة الفضاء الأميركية بإطلاق صاروخ فالكون 07 من قاعدة فاندنبرج الجوية في كاليفورنيا، حاملًا دفعة جديدة من أقمار ستارلينك الصناعية. ولم تكن هذه هي المرة الأولى، بل كانت هذه المهمة هي الرابعة التي تنفذها القاعدة لدعم نشر شبكة ستارلينك، مما يعكس مدى عمق التعاون بين سبيس إكس والمؤسسات العسكرية الأميركية. 

بعد ذلك بعام، في سبتمبر 2023، أطلقت قوة الفضاء دفعة أخرى من أقمار ستارلينك من قاعدة كيب كانافيرال في فلوريدا، استمرارًا لتوسيع نطاق الشبكة.

و بالتزامن مع هذه العمليات، تعمل قوة الفضاء الأميركية على تطوير كوكبة جديدة من الأقمار الصناعية الدفاعية، مصممة لتتبع الصواريخ ونقل البيانات بسرعة من الفضاء إلى الأرض. وكجزء من هذه الخطة، وقعت عقد شراء جديد مع شركة سبيس إكس لتطوير أقمار صناعية مخصصة ومجهزة بأجهزة استشعار واسعة النطاق لتتبع الصواريخ والإنذار المبكر.

ستارلينك سلاح في يد ترامب

مع إعلان فوز دونالد ترامب بالرئاسة في نوفمبر 2024، يبدو أن التحالف بين إيلون ماسك والإدارة الأميركية يتخذ أبعادًا جديدة تتجاوز التقارب الأيديولوجي. كما أشار موقع "أكسيوس"، فإن نجاح إمبراطورية ماسك، وخاصة مشاريع مثل "سبيس إكس" و"ستارلينك"، اعتمد بشكل كبير على دعم حكومي سخي. 


الملياردير إيلون ماسك لأول مرة في تجمع انتخابي للرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء الانتخابات – رويترز
الخطورة اليوم تتجسد في الدور الجديد الذي أوكل إلى ماسك، حيث أعلن الرئيس المنتخب ترامب في 14 نوفمبر 2024 أن ماسك، إلى جانب فيفيك راماسوامي، سيقود "إدارة الكفاءة الحكومية" الجديدة. هذه الخطوة، كما أشار تقرير نشره موقع "صفر"، قد تمهد الطريق أمام "ستارلينك" للحصول على مليارات الدولارات من العقود الفيدرالية والإعانات الحكومية تحت إدارة ترامب، الذي بنى لنفسه سمعة منذ تسلمه ولايته الأولى كالباني والحامي الأول لتكنولوجيا الفضاء الأميركية، نتكلم عن تكنولوجيا الفضاء العسكري بشكل خاص، فمنذ ولايته الأولى، حول ترامب استراتيجية الأمن القومي إلى ساحة منافسة تكنولوجية بين القوى العظمى، خصوصًا الولايات المتحدة والصين.

في هذا السياق، قد يصبح مشروع ستارلينك، الذي أظهر فعاليته في أوكرانيا وأثار جدلاً حول استخدامه في روسيا، أداة عسكرية أكثر استقلالية، بعيدة عن التقييدات القانونية الأمريكية المعتادة، ومدعومة بإعانات ضخمة من الحكومة.

وما يزيد من خطورة أن ستارلينك الذي بدأ بدعاية أن من أجل يوفر الإنترنت بشكل إنساني للأماكن التي تعاني من كوارث طبيعية أو للبعض عن آرائهم في ظل قمع بعض الحكومات، أصبح سلاح محتمل في وجه بعض الشعوب في منقطة الشرق الأوسط، إذ أشارت تقارير إلى رغبة جيش الاحتلال الإسرائيلي باستخدام ستارلينك في عملياته العسكرية ضد لبنان، في يونيو 2024، أفاد تقرير بأن إسرائيل تخطط لاستخدام شبكة ستارلينك لضمان استمرارية الاتصال بالإنترنت خلال حرب شاملة في حاله اندلاع مع حزب الله، حال انقطاع التيار الكهربائي. بينما ذكرت صحيفة كالكاليست أن وزارتي المالية والاتصالات الإسرائيلية تدرسان استخدام 5000 قمر صناعي من ستارلينك لضمان تدفق البيانات والمعلومات بشكل مستقر بين السلطات في حالات الطوارئ.

في ظل هذه التطورات، يبدو أن عهد ترامب الجديد قد يكرس دور ستارلينك كأداة استراتيجية محورية في المنافسة الجيوسياسية العالمية، مع إمكانات هائلة لتعزيز الهيمنة الأميركية في مجال تكنولوجيا الفضاء العسكري.