استبشار عن بعد!

بشار جرار

من قال إن الاستشعار عن بعد يخص الماديات فقط، ثمة نصيب لما وراءها أيضا. لا يعلم الغيب إلاّه سبحانه، لكنه ينعم على عباده الصالحين فيكرم الخاصة منهم، في مقدمتهم الغلابى والفقرا (ء) – همزتها صامتة – يكرمهم بكشف من نوع خاص يسميه البعض قبسا من نور أو فيضا نورانيا.

يظن المعنيون بعالم الأخبار من محترفي مهنة الإخبار بكل أنواعه، يظنون الكشف قدرة على الاستشعار عن بعد، كالإحساس بالخطر قبل وقوعه وبالتالي الدعوة إلى تفاديه استباقيا ووقائيا، أو العكس تماما كالشعور بالخير القادم لا محالة، وإن طال انتظاره. الدعوة في هذه الحالة، أهمها محاربة السوداوية التي تفضي قطعا إلى سلبية لا تخرج عن نطاق التنطّع، حركة دوران في المكان لا تتقدم بالحال موضع الشكوى أنملة واحدة، كمن يقال في حاله «مكانك سِرْ»!

هي كما «حراثة الجْمال» في الصحاري، و»دقّ الميّ وهي ميّ» ولو كانت نبعا صافيا. لا فرق بين تراب وماء ف «ما زاد الطين بِلّة» هو إصرار البعض على رفض الإقرار بقدرة البعض -ممن فتح الله عليهم أو كانوا في موقع كاشف يرون فيه المشهد بثلاثمة وستين درجة- فيمسون بذلك ويصبحون على القدرة على الاستشعار عن بعد. والاهتداء بهديهم -أولئك الخبراء الأمناء- فيه الصلاح والفلاح. كل في اختصاصه ومن موقعه الكاشف، لا يجوز أن تتيح منصات الاستعراض والاستذكاء والاستقواء، تتيح لكل من هب ودب خاصة أولئك المنظرين عن بعد أن يفتوا في كل شيء وخبرة بعضهم لا تتجاوز الجلوس خلف «الكاش» في بازار أو مطعم أو مرآب!

تجريب المُجرّب واجترار المغالطات في محاولة للجمع قصرا بين المتناقضات المتنافرات، أو المتضادات التي لا تَمازج بينها أبدا كما بقعة الزيت مهما صغرت في الماء الذي مهما كبر وعلا وإن كان محيطا، لن تتمازج أبدا، تظل طافية حتى تلقي بها الأمواج إلى «حيث رحلت»!

بعض الأمور -كما في الكثير من الأحداث الجسام- لا يستوي الحال فيها إلا باعتماد المنطق، وتفعيل القانون الذي وضعه سبحانه في الأشياء كلها، في الأرض وما عليها من مخلوقات، ولا استثناء في ذلك لا لبشر ولا لما بنوه من حصون وقلاع وأبراج، خاصة تلك العاجية.

في نهاية المطاف، لا بد أن يتواضع الجميع أمام الحقيقة كونها سمة ومظهر من الحق. كما الحق أبلج، الحقيقة بيّنة. لها بطبيعة الحال شروطها، مقدماتها ونتائجها. ولن يتكون الغلبة أبدا -وتلك حكمة من لدنه سبحانه- لن تكون الغلبة أبدا لما يخالف مشيئته جل وعلا، ومنها الخلق والناموس الضابط لكل شيء في هذا الكون، منذ «كن فكان».

قد يسهل علينا -صغيرنا وكبيرنا- رؤية الحق ودعمه، لكن من قال إن الباطل في هذا العالم وفي هذا الزمن عاجز عن الكثير من الأباطيل والأفاعيل. بعض المفترقات لا تتضح معالمها إلا بعد استشعار الطريق كله ورؤية مآلات الأمور لا نتائجها الآنية أو الأولية فقط. وليس الكل بحاصل على ترف الانتظار أو التعطيل.

وإن كان الناس في قدرات متفاوتة على الاستشعار عن بعد، فمن رحمة الله فينا أنه وضع فينا القدرة على الرؤية على امتداد المدى وأقلّه النظر تحت أقدامنا وتحت أنوفنا. كثير من الأمور القريبة للغاية إلى حد عدم القدرة على الإحساس وليس الاستشعار بها لأنها مضمونة «في العب وفي الجيب». ينسى حينها البعض الحمد الذي به فقط تدوم النعم. لعله في ذلك الحكمة بأن نديم من بعد الحمد والثناء التفاؤل بالخير حتى نجده أينما وجّهنا الأنظار. ثمة شيء حسن، خيّر وجميل في كل ما حولنا. ربما بعضها لا يراها إلا البعيد كما هو حال المغترب والمهاجر، ينظر عن بعد لا يشغل باله استشعار بل استبشار بأن القادم أجمل -ليس كما يتندر ويتذمر ويتنمر البعض- مشككا بأن الأمر تطييب خاطر أو «تخدير».

القادم بعون الله أجمل إن كان المنظور جميلا. إيجابيا يرى الخير في هذه البلاد المباركة. ليس خيرا بلاغيا أو رغائبيا بل ماديا محضا، في الجينات الوراثية. من يظن في الكلام مبالغة لأي اعتبار كان، إحيله إلى المختصين بعناصر التربة ونوعية ثمارنا «كرومنا» -العنب والتين والزيتون والتمر- وحبوبنا -العدس والقمح والشعير مثلا ذلك الأخير «مأكول مذموم» للأسف كما يقال- والهواء على كل ما فيه أحيانا من غب ار وعوادم سيارات، وتلك السكينة وذلك السكون -لولا العتب لمددت الياء والواو في الكلمتين سطرين، ذلك السكووون الذي تبقى تنعم به حتى في عز نجوم الظهر وسط زوامير المستعجلين لبلوغ الصف الأول أمام الإشارة الحمراء.

بدء الاستشعار عن بعد، استبشار يتراءى فيه أمامنا صنع وجني أيدينا فلا نلوم أحدا سوانا. زَرَعَ حَصَدَ، هكذا علمونا في المدارس قبل زمان «السوشال» و «الإيه آي» وسنينه!!