ليسوا أرقامًا

إسماعيل الشريف

«وأمسى البكاء مبتذلًا، ربما لأن الدموع صارت تستحي من نفسها»، رضوى عاشور، من رواية الطنطورية.

في 7 يناير 2015، تعرض مقر مجلة «شارلي إبدو» لهجوم وُصف بالإرهابي، وذلك بعد نشرها رسومات مسيئة عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- مما أسفر عن مقتل اثني عشر شخصًا، منهم ثمانية صحفيين. أثار ذلك الحادث ضجة كبيرة وردود فعل عالمية واسعة وقامت الدنيا ولم تقعد آنذاك؛ حيث تدفق قادة العالم ومشاهيره إلى باريس للمشاركة في مسيرة تضامنية ضخمة، معلنين دعمهم المطلق لحرية الصحافة وحق التعبير.

وفي مشهد مماثل من حيث التعاطف الغربي، شهد عام 2013 موجة تضامن واسعة مع الجندي البريطاني لي ريغبي. الذي قُتل على يد متطرفين احتجاجًا على سياسات بريطانيا الخارجية، كما تجلى هذا التعاطف مجددًا في أعقاب حادث مانشستر أرينا مع ضحايا الانفجار الذي وقع خلال حفل المغنية أريانا غراندي؛ حيث فقد اثنان وعشرون بريطانيًّا حياتهم في ذلك الحفل، وسارعت تلك المغنية بتنظيم حفل خيري جمع الملايين لدعم أسر الضحايا.

في المقابل، يواجه الإعلاميون الفلسطينيون واللبنانيون مصيرًا مأساويًّا منذ بداية عملية طوفان الأقصى، فقد استشهد مئتا صحفي، منهم ستة في يوم واحد -ثلاثة في جنوب لبنان وثلاثة في غزة- ويقبع صحفيون آخرون في المستشفيات، يصارعون الموت ببطء بسبب نقص العلاج إثر إصاباتهم جراء استهدافهم من قبل قوات الاحتلال، وسط صمت عالمي مطبق دون أن يُدين أي سياسي غربي هذه الجرائم!.

ويستشهد حوالي مئتي ألف فلسطيني وأكثر من ثلاثة آلاف مدني لبناني، لكن هذه الأرقام المهولة لم تحرك ضمير المجتمع الدولي. يمكن تفسير هذا التجاهل من خلال منظومة فكرية غربية قائمة على نظريات عنصرية، مثل نظرية «تفوق الرجل الأبيض»، و»المليار الذهبي»، و»التفوق الحضاري»، و»القدر المتجلي»، وبناءً على تلك النظريات يعتبروننا «أشباه إنسان».

لكن المشكلة لا تقتصر على الموقف الغربي، فقد أصبنا نحن أيضًا بحالة من التبلد النفسي والعاطفي، وتحولت المجازر إلى جزء من روتيننا اليومي؛ في مجموعات «واتساب»، نجد الأصدقاء يتابعون مباريات كرة القدم ويشجعون فرقهم بنفس الحماسة، وربما أكثر، من دعمهم لفصائل المقاومة، وأصبحت أخبار الشهداء مجرد أرقام نتلقاها أثناء تناول وجباتنا. نجد أنفسنا نشعر بالارتياح النسبي عندما تكون حصيلة الضحايا «مئتين فقط» بدلًا من ألف. في الأيام الأولى للمجزرة، كان التفاعل أكبر بكثير، وكان حزننا وغضبنا أعظم مما هو عليه الآن. فما الذي يحدث لنا؟

يفسر علماء النفس هذه الظاهرة بما يسمى «التخدير النفسي والعاطفي»، فكلما زاد حجم الكارثة تناقصت قدرتنا على الاستجابة العاطفية؛ حيث تضعف مشاعرنا تدريجيًّا مع تزايد أعداد الضحايا، وتتحول الأرقام إلى «إحصائيات جافة». ويشير علماء النفس إلى أن الإنسان يواجه صعوبة في إدراك الخسائر الكبيرة بنفس الاستجابة التي يظهرها تجاه الخسائر القليلة. كما تُظهر الأبحاث أن المشاعر تتناقص كلما زاد حجم الكارثة.

سألتُ طبيبة نفسية عن سبب هذا التبلد، فأرجعته إلى عدة عوامل، منها أن الكآبة وتكرار المشاهد المؤلمة تؤدي إلى تبلد المشاعر، وأن تكرار المشاهد المؤلمة يجعلنا نعتاد عليها، إضافةً إلى الإحباط والشعور بالعجز عن القيام بفعل ملموس قد يدفعان إلى الهروب من مواجهة الواقع.

يدرك الإعلام الغربي هذه الحقائق؛ كما يدرك أهمية القصص الفردية في استثارة التعاطف، ففي كل قصة مؤيدة للصهاينة، يخصص مساحات واسعة لعرض قصة فردية، مسلطًا الضوء على تأثير الحدث على الشخص المعني. في المقابل، يكتفي إعلامنا غالبًا بسرد الإحصائيات الجافة متجاهلًا البعد الإنساني للمأساة، فنادرًا ما يتناول القصص الإنسانية إلا لمامًا.
وأجزم أن الصهاينة، ومن خلفهم الأمريكيون، يدركون ذلك أيضًا؛ لذا يتمادون في ارتكاب المجازر، مطمئنين أنه بإمكانهم بعد انتهائها أن يجعلوا الناس ينسون ما اقترفوه.

وللتخفيف من هذا التبلد، علينا تجاوز لغة الأرقام والإحصائيات فلا ننظر إلى المجزرة بلغة الأرقام فقط، بل علينا أن نركز على المآسي الشخصية للضحايا، كما أن إعلامنا مطالب بمعرفة أسماء الشهداء، وقصصهم، وصورهم، وظلال المأساة على حياتهم، علينا كذلك توثيق المآسي الفردية وتداولها على منصات التواصل الاجتماعي. ويقول علماء النفس إن القصص التي تركز على شخص واحد تسهم في بناء روابط قوية، وأن القصص التي تُبرز أصوات وكرامة المتضررين تترك أثرًا كبيرًا في استثارة التعاطف مع الضحايا.

في النهاية، الشهداء ليسوا مجرد أرقام تُحصى؛ يجب أن نتذكر أن كل شهيد يحمل قصة فريدة وأحلامًا لم تتحقق. مسؤوليتنا الأخلاقية والإنسانية تحتم علينا الحفاظ على ذكراهم، ليس كأرقام في إحصائية، بل كأرواح إنسانية تستحق أن تُخلد في ذاكرتنا الجمعية لنحافظ على ما بقي من إنسانيتنا.