بالخدمة
بشار جرار
تحسم المصادر دائما السجال والجدال. تقطع المصادر المطلعة والعليمة منها الشك باليقين، فيما تقطع المصادر الحصرية منها دابر القيل والقال بسطر واحد آخره نقطة.
مما جاء في الأخبار قبل أيام، حسم قواتنا المسلحة الأردنية جيشنا العربي المصطفوي، حسمها بلسان مدير الإعلام العسكري العميد الركن مصطفى الحياري، لكل ما يخص خدمة العلم. لأهمية القضية والرمزية -قضية الخدمة، ورمزية العلم- أحيل القارئ الكريم من على هذا المنبر الأمين إلى المواقع الرسمية ذات الصلة.
من هنا تبدأ العلاقة، علاقة الثقة المتبادلة، القائمة على صخرة اليقين، حيث أمرنا بأن تبيّنوا، تثبّتوا، بمعنى تحققوا وتحروا ليس الصدق والحقيقة فقط بل الحقيقة كلها وبدقة في تفاصيلها كافة. لذلك كانت العبرة في القسم أمام القضاة بأن نقول «الحق ولا شيء غير الحق». ولذلك أيضا في قسم الولاء في نيل الجنسية -مثلا في بلاد العم سام- يكون القسم على المنطوق المعلن وعلى ما في الضمير من نوايا ضامرة ينبغي أن تكون صادقة في ولائها غير القابل للقسمة على نحو كليّ تام.
مما استوقفني في مراسلات المملكة المتحدة، بريطانيا العظمى، منذ نحو ثلاثة عقود، في زمن كان فيه الاعتماد شبه كلي على البريد الورقي لا الالكتروني، استوقفتني عبارة «في خدمة جلالة الملكة» تكتب على المغلفات «الظروف» وهي الآن في «خدمة جلالة الملك» بعد رحيل الملكة إليزابيث الثانية رحمها الله. عرفت يومها من عسكري بريطاني متقاعد زاملته على مقاعد الدراسة -دراسات السلام (استشعار، تحليل، تسوية النزاعات وتفادي حدوثها وتفاقهما)- عرفت مفهوما مميزا للخدمة في معناها الوطني -العسكري والمدني، ومداها الوطني الإنساني في أبعادها الوظيفية والتطوعية. بعدها بسنوات عرفت في الولايات المتحدة كيف يتم الإعداد لهذه الثقافة من خلال الأسرة وبيوت الله من الأديان كافة ومؤسسات وجمعيات شتى -غير دينية وغير سياسية- منها الكشافة وأندية اجتماعية خيرية منها الروتاري والليونز.
هذه الأخيرة من شعاراتها: نحن نخدم بمجد.. الخدمة في جوهرها محبة وهي من ثمارها. محاكاة لما اقتبسه الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي عن المفكر والأديب اللبناني الأمريكي جبران خليل جبران، أرِني كيف تخدم بلادك أعرفُ كم تحبها، وكذلك الحال بالنسبة لكل غال ومقدس، كالأسرة والعائلة، العشيرة والديرة.
كأب لم أرفع يوما شأني شأن آباء وأمهات العالم كافة، علما عليه عبارة أنا فداء أسرتي، ولا احتفظ بالضرورة في محفظتي التقليدية أو الالكترونية بصور أفراد الأسرة كلها، حيث لا تقرأ المحال التجارية ملامح تلك الوجوه الغالية وإنما «بار كود» يتم مسحه ضوئيا لسحب الأموال الكترونيا من حسابي البنكي إلى ما نبذله في سبيل فلذات أكبادنا.
العلَم والخدمة في القلب في العقل في الوجدان، مع كل نفس شهيقا وزفيرا حتى تعود الروح أو النفس إلى باريها. الخدمة تطوعية قبل أن تكون إلزامية، والخدمة لا يحدها حتى سنين العمر على هذه الأرض، فما هي إلا ممر. كم من رجالات الوطن الأفذاذ الصناديد، مازالت خدماتهم الجليلة وتضحياتهم العظيمة ماثلة إلى العيان حاضرة في الوجدان. حتى أولئك الذين لم يسجلوا مذكراتهم أو لم يحفظها كاتب متخصص في السير الذاتية، نعلم كلما أجلنا النظر داخل ربوع الوطن وحول حماه المفدى، نعلم يقينا كيف تم تشييد مئوية من الجهاد الحقيقي والنضال الصادق والكفاح الأمين. نعلم علما يقينيا أن للأردن جندا مجندة في الوطن والمهجر لا يقرأون الخدمة بعدد السنين ولا يقتصرونها على شرف الخدمة العسكرية. إنما هي خدمة لا إعفاء فيها.
كاتب هذه السطور وحيد الوالدين، تمنى في مستهل العمر وما زال، تمنى أن ينال شرف نداء شاعرنا الراحل الكبير سليمان عويس للحسين العظيم طيب الله ثراه وكتب مقامه في عليين: مولاي زعيم الجيش، حبيب الجيش، لبّسني شعار الجيش بس مرة وخذ عمري»..