أصكوك غفران أم حرمان؟!
بشار جرار
«أنا من هون» كما في أحلى أغانينا في اليوبيل الفضي الميمون. العبدلله والفقير إلى رحمته كاتب هذه السطور، من جيل الشاشة الفضية -أيام الأبيض والأسود حيث لا رمادية ولا تلوّنا. من يافعي ما قبل الفضائيات عندما كان البث مركزيّا مركّزا من أم الحيران-عمّان، محليا وطنيا أردنيا، قبل زمن العواجل وأشرطتها المتحركة ورنات أجراسها وتقسيم الشاشات وتشتيت رسالتها.
يضحكني، يحزنني أحيانا، وكثيرا ما يغيظني، تلك المبالغة والمباهاة في تشطير الشاشات لما يتسببه من تسطيح للأمور في كثير من الأحيان والوقوع في غلط وليس مجرد اللغط في وضع النقاط على الحروف، سيما في المواقف التي تطلب المبادرة بالحسم قبل أن تمطرنا الفضائيات بإسناد من المنصات أو العكس، تمطر البعض منا بوابل من الأكاذيب.
عندما يكون ما هو على المحك مقدّس، كما الإيمان الحقيقي بأمن وأمان الأردن والأردنيين، لا مكان للفذلكة ولا الحذلقة ولا الانجرار وراء وصفات عفا عليها الزمن. اختيار الصورة ثابتة أو متحركة في قسم من الشاشة -كبر أو صغر- قضية متممة وأحيانا طاغية على السردية بل والرسالة نفسها لا مجرد التغطية.
تعلمنا في المدرسة الإعلامية الأردنية العريقة أن الحرية التي سقفها السماء ينبغي أن يكون لها ضوابط أهمها البوصلة الوطنية والمهنية والأخلاقية والروحية. لا يبقى إلا الكلم الطيب والحقيقة غلّابة ولو بعد حين. ولدينا العذر كله، لكل من تصدى لأمانة الكلمة والصوت والصورة بصرف النظر عن المنبر الذي يتحدث منه أو الشاشة التي يطل منها، لدينا العذر في نبذ بعض التقليعات «الفنية».
مكافحة الإرهاب تبدأ بمكافحة التحريض الذي يتطلب بدوره التصدي لخطاب الكراهية. سر نجاح هذه المكافحة يقوم على تعظيم العقلانية وتفنيد الانفعالية إن كانت كاذبة مغرضة، وترشيدها إن كانت صادقة أمينة.
بارك الله في وسائل إعلامنا الوطنية ما قصرت يوما في أداء هذا الواجب، لكننا جميعا ننشد الكمال ما استطعنا إليه سبيلا. وهذه بعض الأمثلة الموجزة التي يسمح بها المقام. ما هو أخطر من الرد على «التبني» أو»المباركة» يكمن في السرديات، في المقدمات التي أفضت إلى تلك النتائج. القضية ليست مفردات التعليق أو التبرير على القيام بفعل عبثي مدان قولا واحدا، كونه قبل كل شيء فيه تجاوز مرفوض على المخولين حصريا -دستوريا وقانونيا وشرعيا- المؤتمنين وحدهم لا أحد سواهم، على دورنا وديارنا وديرتنا الأردنية، القضية في جوهرها هي التصدي لأولئك الذين يدعون حقا ليس لهم، ولن يكون أبدا. تحديد من هو المؤمن ومن هو الوطني ومن هو القادر على أداء الواجب، ليس من حق أحد سوى الدولة ومؤسساتها وهي في هذه الحالة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وجهات إنفاذ القانون وإحلال النظام ونشامى خط الدفاع الأول في الجبهات كافة بما فيها الصحية واللوجستية كما كان إبان أزمة كوفيد التاسع عشر. لذلك «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» يتم اختيارهم بعناية فائقة ومراجعة دائمة وتبذل الأرواح والأموال لتدريبهم وإعدادهم حتى ننام دون وضع السلاح جانب السرير كما في بلاد الغربة والهجرة لدى كثيرين من الأردنيين والشرق أوسطيين في أوروبا وبلاد العم سام.
والمثال الثاني هو كيفية التعبير للمخولين فقط بحق القول والفعل، وليس لكل من أتقن السجع وتفوه بما تم تلقينه من أيدولوجيات وسرديات دأب شخوصها على ترديدها في كل مصيبة حلت بمنطقتنا منذ القرن التاسع عشر، قبل التلفاز والمذياع أيام ما كانت «الطباعة» و»الحنفية» لدى البعض حراما حراما حراما!
قد آن الأوان -وهذا مثالي الثالث التوضيحي لما سبق- آن الأوان الكف عن تشطير الشاشات وتسطيح سرديات الدفاعيات والاعتذاريات معا.. لسنا معنيين في حالات التدخل لغايات الإنقاذ بآراء المشككين وتعليقات المرجفين وتحليلات من ثبت في مناسبات سابقة إسهامهم في كثير مما نتصدى له الآن. ضيف واحد يكفي. بلا صور عائمة تلك التي تعرف بالإنجليزية «فلوتينغ بيكتشرز». القضية تعلو الحدث أو الخبر. لا مكان للترويج للمغرر بهم ولا للسماح بمن غرروا بهم. القضية هي الأردن. حدوده التي يحميها البواسل. لا يزاود عليهم أحد ولا يزاحمهم إلا دعي مغرض أو جاهل أو غافل. استغفله أشرار من خارج البلاد، في بلاد بعيدة أو قريبة، همهم ليس همنا، نعرفهم من ثمارهم. وإن كان لا بد من تشطير الشاشات وكأنها مكعب الأحاجي «روبكس كيوب»، فلتكن عواصم الأشرار وعواصم ومدن وقرى وحدود ضحاياهم المستباحة من النكبة والنكسة ومزاعم التحرير من الشرق فمن الشمال فمن أفغانستان فالفوضى الخلاقة فالربيع العربي الذي يتشدق البعض -من التحالف الشيطاني بين اليسار المتطرف المنحل المختل ومحور «مصدات المشاغلة»- يتشدقون بأن الهدف هو النسخة الثانية من «ربيعهم» اللعين.
الوضع لا يحتمل توزيع صكوك غفران ولا حرمان! كلهم مدلسون ولا ندين أحدا، يخوضون في أعراض الناس وطنيا ودينيا ثم يزعمون التقوى وما هي إلا تقية.. أرشيف استعراضات الملثمين في عدد من العواصم ما زال حاضرا في الأذهان. بدأ بهتافات «سلمية سلمية» فصار «جمعا» و»تنسيقيات»، وسرعان ما سقط القناع وبانت النوايا تحت النواجذ في ضحكاتهم الصفراء: فنون قتالية بعصيّ فشماريخ فأسلحة «بيضاء» فإرهاب أسود. ألا سوّد الله وجوه كل خائن غادر للوطن وإن كان شق الروح توأما!