واشنطن وإسرائيل والكثير من «كسنجر»
عمر عليمات
يروي مارتن إنديك في كتابه «سيد اللعبة» كيف أن وزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كسنجر اعتمد أثناء حرب 1973 «دبلوماسية التنقل» لخفض التصعيد ووقف الحرب، إلا أنه حرص على تحقيق هدف رئيسي، وهو ضمان انتصار إسرائيل، وفي ذات الوقت منع انهيار الجيش المصري لتسهيل الدخول في مفاوضات سلام لاحقة، وإذا ما نظرنا إلى ما يجري في منطقتنا اليوم يبدو واضحاً أن واشنطن ما زالت تتبع ذات الاستراتيجية، ولكن هذه المرة مع إيران.
كيسنجر كان لديه اعتقاد راسخ أن استقرار المنطقة يعتمد على إيجاد توازن دقيق بين القوة والضعف، إذ لا يجب السماح لأي طرف بالانهيار الكامل، لأن ذلك سيقود إلى فوضى، تشجع طرفاً ثالثاً على ملء الفراغ، وهذا ما لا تريده واشنطن في منطقتنا لسببين، الأول تعزيز نفوذها في الإقليم، والثاني عدم تأثر مصالحها نتيجة أي تغيرات غير محسوبة.
أدوات كسنجر تظهر بشكل جلي في الدبلوماسية الأمريكية الحالية، فهي تدعم إسرائيل بلا حدود وتتبنى حتمية الرد على الهجوم الصاروخي الإيراني، ولكنها في ذات الوقت تمارس كل الضغط لكبح جماح نتنياهو ومنعه من توجيه ضربة إلى البرنامج النووي الإيراني أو المنشآت النفطية والاستراتيجية، مما يؤدي إلى رد إيراني يمهد لحرب شاملة في المنطقة، قد تسفر عن انهيار النظام في إيران.
إسرائيل اليوم منتشية وتشعر بالتفوق، فهي من جهة تمكنت من توجيه ضربات قاصمة لحزب الله «جوهرة إيران» في المنطقة، ومن جهة أخرى تحظى بدعم أمريكي غير محدود، وهذا ما ترى فيه تل أبيب فرصة ذهبية لإعادة ترسيم النفوذ، وتكريس نفسها قوة مهيمنة في الشرق الأوسط دون منازع، إلا أن لواشنطن حسابات أخرى، أوسع من مجرد الرد على إيران وحلفائها.
واشنطن ورغم كل ما يقال عن عجزها أمام اندفاع بنيامين نتنياهو، إلا أن يدها ما زالت هي الطولى، وتمارس ضغطاً مهماً لضبط السياسة الإسرائيلية، وفي ذات الوقت تنشط دبلوماسية القنوات الخلفية والرسائل المتبادلة مع طهران عبر أطراف ثالثة، وهذا ما يُفسر تأخر الرد الإسرائيلي، فالولايات المتحدة من جهة، تريد رداً إسرائيلياً يحجم إيران، ومن جهة أخرى، لا تريد انهياراً دراماتيكياً للنظام في طهران، إذا ما وجهت إسرائيل ضربات عسكرية قاصمة له، فواشنطن تريد الإبقاء على النظام الإيراني ضعيفاً بما يكفي لعدم تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ولكن قوياً بما يكفي ليكون جزءاً من أي معادلة إقليمية مستقبلية.
بقاء إسرائيل قوة مهيمنة عسكرياً في الشرق الأوسط هدف أمريكي رئيسي، ولكن ليس إلى حد حرق إيران تماماً، فما سينتج عن ذلك ليس في مصلحتها، فإبقاء النظام الإيراني قائماً، ولكن ضعيفاً، يمنح واشنطن فرصة أفضل لتحقيق تسوية سلمية في المنطقة، دون وجود عوائق حقيقية أمامها، وفي ذات الوقت بقاء طهران في قيادة محور المقاومة لضمان عدم ظهور جماعات جديدة على أنقاض الجماعات المنهارة، فوجود مظلة مضمونة وضعيفة لمثل هذه الجماعات أفضل من التعامل مع جماعات منفردة، تتخذ قرارات بشكل أحادي وبلا ضوابط أو حسابات.
بالمحصلة، حتى لو شهدنا ضربة إسرائيلية قوية ضد إيران فستكون محسوبة تماماً وعلى المقاس الأمريكي، إذ إن سياسة واشنطن في المنطقة لم تتغير بشكل جذري منذ أيام هنري كيسنجر، فما زال الهدف الأساسي تفوق إسرائيل كحليف استراتيجي، مع الحفاظ على نوع من الاستقرار الإقليمي يمنع الانهيار الكامل لدول مثل إيران. هذه الاستراتيجية، تمثل جوهر السياسة الأمريكية، والحديث عن عدم قدرة واشنطن على التأثير بسياسة إسرائيل مجرد كلام ليل يمحوه النهار.