رجل الواقع ورجل المواقع

رمزي الغزوي

فرق كبير بين الشجاعة واستعراضها والتظاهر بها. وفرق أكبر بين الكرم والحديث عن الكرم هو يساوي الفرق بين التطبيق و»رصف الحكي» وتنميق الصورة وتبهيرها وتحسينها بكل الفلاتر المتحة.

فكما أن أناسا لا يمكنهم إلا أن يبقوا كؤوساً تملؤها الأباريق ولا يجدي نفعاً أن تنتظرهم يوما ليصير الواحد منهم إبريقا يدفق ماءه على أحد، هناك من ينفع أن يكون منتقدا شديد البأس ضرباته أشد من وقع الحسام، ولكنه يخفق حين يُمنح فرص العمل وتجريب ذات موقع انتقاده. البعض لا يستطيع أن يكتم الهوبرة والشوشرة، ويرى أنها أكسجينه وماؤه.

كما قال أهلنا في أمثالهم فالبعض لا يجيد إلا أن يكون ضيفا، ولن يستطيع أن يكون مضيفاً لما على هذه الحالة من مسؤولية كبيرة مكلفة. البعض لم يجرب أن يضع نفسه مكان الطرف الذي انتقده أو الذي ينتقده. وهنا يحدث الانفصام.

في هذا الزمن الضبابي لم تعد الناس تفرّق في كثير من الأحوال والأهوال بين الشهرة والقدرة على العطاء الحقيقي، مع أن المسافة بين الشيئين شاسعة. الشهرة تعمي الواحد وتجعله في بعد واحد فقط. اي تجعله لا يرى إلا نفسه، أو لا يرى إلا ما يريد وما يحب. هذه الشهرة تساوي أحيانا الدكتاتورية في بعض جوانبها. أما العطاء فلا يحتاج إلى من يتحدث عنه. هو يتحدث عن نفسه ولو بعد حين.

نحن في زمن الفقاعات الإعلامية وشهوة الاستعراض وعرض العضلات وفتلها. حتى باتت هذه الشهوة تفوق وتقمع كل الالتزامات والأخلاقيات. الاستعراض يؤدي بصاحبه إلى الوقوع تحت وطأة «اللايكات» والاعتقاد أنه محبوب الجماهير.

الشهرة، وهنا المشكلة الحقيقة، تُعلف في بعض الأوقات وتغذي الأنا عند من لديهم استعداد فطري للتورم والانتفاخ وشرب الوهم. الأنا المتضخمة تجعل صاحبها يعتقد أن العالم يدور حوله. تجعله يخاف أن يفقد هذا الإحساس وهذا البريق. ولهذا لا يمكن له أن يتخيّل أنه غدا على الطرف الآخر. حتى وهو هنا؛ فإنه كان يفكر بعقلية من هو هناك.

الرجل رجلان اثنان في زمننا هذا. رجلٌ على أرض الواقع، والآخر على «المواقع». ففرق شاسع بين من يكونه الواحد في جوهره وحقيقته، وبين ما يبثه أو ينشره أو يصوره على مواقع التواصل الاجتماعي. قلما تجد المسافة صفراً بين الرجلين. فمؤلم جداً هذا الذي ضرب البشرية مع تقدمها التكنولوجي. الواحد غدا اثنين على أقل تقدير.