حروب المصطلحات

إسماعيل الشريف

«اللغة السياسية مصممة لجعل الأكاذيب تبدو صادقة، ولإضفاء صبغة منطقية على الأمور الفارغة تمامًا»، جورج أورويل.

تتباين الصورة التي ترسمها الولايات المتحدة لسياستها الخارجية عن واقعها الفعلي بشكل صارخ، فبينما تدّعي أنها تسعى لنشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتحقيق الاستقرار العالمي -هكذا يصوّرها السياسيون ووسائل الإعلام- تكشف ممارساتها في مناطق مثل فلسطين ولبنان وسابقًا في العراق وأفغانستان عن نهج مغاير تمامًا، فالواقع يشير إلى أن السياسة الأمريكية في الحقيقة قائمة على القتل والتجويع واستغلال الموارد والكذب.

تتجلى ازدواجية المعايير الأمريكية في تناقض خطابها الداعي لتحقيق للسلام والاستقرار مع أفعالها المؤججة للصراعات والسعي للدمار تحقيقًا لمصالحها، وبالمثل، كما يظهر التناقض في ادعائها محاربة الاستبداد والسعي لتحقيق العدالة، إلا أنها في الحقيقة تدعم الأنظمة القمعية، أما عدالتها فهي انتقائية ومنحازة، أقل ما يُقال عنها إنها كالأعور الدجال ترى بعين واحدة.

أتابع يوميًا مختلف وسائل الإعلام، بما في ذلك الأجنبية، التي تعد جزءًا من آلة الحرب الأمريكية التي تغسل العقول وتزوّر الحقائق، وتلعب دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام لتحقيق أهداف الغرب والصهاينة من خلال وسائل عديدة، منها «اللعب على المصطلحات».

وسأضرب أمثلة على ذلك لإيضاح الفكرة:

 فمثلًا، يوصف التدخل الروسي في أوكرانيا دائمًا بـ «العدوان الروسي غير المبرر»، هذا المصطلح يهدف إلى إقناع شعوبهم بعدم الاعتراض على المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، ولا يتم ذكر «روسيا» أو «الاتحاد الروسي»، بل يُستبدل ذلك بكلمتي «بوتين» أو «الروس»، لاستدعاء ذكريات الحرب الباردة لأنها لها وقع مخيف على الشعب الأمريكي منذ الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي.

وعند ذكر الصين، تُضاف عادةً عبارة «إدارة الدولة»، مثل «الاقتصاد الصيني الذي تديره الدولة» أو «الإعلام الذي تديره الدولة»، بهدف إظهار الصين كنظام استبدادي ودولة ديكتاتورية.

وعندما يأتي الحديث عن إيران، يتم دائمًا ربطها بالشر، وتُحمَّل وحدها مسؤولية عدم استقرار المنطقة، كما تُربط جميع عمليات المقاومة ضد الاحتلال بها.

وقبل أيام قليلة، عندما استهدفت إيران الكيان المحتل، وُصف الهجوم الإيراني بأنه تصعيد وإرهاب خطير، بينما أي رد صهيوني عليه يُعتبر «توسعًا للصراع» و»حق الدفاع عن النفس»، ويُرى أنه يستحق الرد.

تعتبر وسائل الإعلام الغربية قصف حزب الله للكيان المحتل عمليات إرهابية تستهدف المدنيين، أما عندما تقوم الدولة المارقة باستهداف عمال الإغاثة الأجانب أو الناشطين الأمريكيين أو الصحفيين أو ترتكب المجازر في المناطق الآمنة التي تثير ضجة عالمية، فإن ذلك يوصف في أفضل الأحوال بأنه «غير مقبول»، مع انتظار نتائج التحقيق.

دائمًا ما تحاول وسائل الإعلام الصهيوغربية نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين لتسهيل تقبّل الجمهور لذبحهم. فمثلًا، يتم ربطهم بحماس «الإرهابية» التي يُدّعى أنها تقطع رؤوس الأطفال وتغتصب النساء، وحتى لا يرى الجمهور أي ضرر في تدمير المستشفيات، تُضاف إليها عبارة «التي تديرها حماس»، وعند ارتكاب الكيان المجازر في المناطق الآمنة، يتم إضافة جملة «وجود عناصر من حماس بين السكان»، أو التركيز على عبارات مثل «حاضنة حماس» و»الدروع البشرية» لتبرير هذه المجازر.

وفي جميع المظاهرات والاحتجاجات ضد جرائم الصهاينة، لابد أن نسمع كلمتي «معاداة السامية» أو يُبرز اسم «هتلر» و»المحارق».

في غضون أسابيع قليلة، تزامن حدثان بارزان كشفا عن تباين صارخ في التغطية الإعلامية الغربية: الأول حادثة مقتل أربعة محتجزين لدى حماس، في هذا السياق تبنت وسائل الإعلام الغربية والساسة لغة موحدة مستخدمين عبارة «حماس الإرهابية»، متهمينها بقتل الرهائن «بدم بارد» أو «بوحشية»، مع دعوات صريحة لمحاسبتها. 

ثانيًا وعلى النقيض من ذلك، عندما قام قناص صهيوني بتوجيه رصاصة إلى رأس الأمريكية إيناسور أثناء مشاركتها في مظاهرة مناهضة للاستيطان في الضفة الغربية، اتسمت التغطية الإعلامية بالحذر الشديد، وركزت وسائل الإعلام الغربية والسياسيون على أصول الضحية التركية، متجاهلين الجهة المسؤولة عن اغتيالها، وبدلًا من ذلك، تم الاكتفاء بالدعوة لانتظار «نتائج التحقيق»، وهو نمط متكرر في التعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية ضد المواطنين الأمريكيين.

يتجلى هذا التباين أيضًا في وصف العمليات العسكرية، فعندما يشن الكيان اجتياحًا بريًا على لبنان أو غزة، يُطلق عليه «عملية برية»، غالبًا ما يشار إلى التحركات الروسية المماثلة بـ»الغزو»، وعادةً ما يتم تبرير عمليات الكيان الصهيوني في غزة بأنها «رد على أحداث السابع من أكتوبر».

لكن أحداث «طوفان الأقصى» أحدثت تحولًا في المشهد الإعلامي، فقد كشفت عن قصور الإعلام الغربي التقليدي، مما أتاح المجال لظهور وسائل إعلام بديلة، خاصةً على منصات التواصل الاجتماعي، هذا التنوع في مصادر المعلومات قلص من هيمنة الروايات الأحادية وكشف زيف بعض الادعاءات المعتادة، فلم تعد السردية مقتصرة على وسائل الإعلام التقليدية الكبرى، ولم يعد بإمكانها ممارسة الكذب والتدليس المعتاد. 

نتيجة لذلك، نشهد تعاطفًا كبيرًا مع القضية الفلسطينية في جميع أنحاء العالم، خاصةً بين الشباب، ويمكنك أيها القارئ العزيز أن تلمس هذا التحول بنفسك من خلال متابعة تعليقات الجمهور على منشورات وسائل الإعلام التقليدية، والتي تعكس تغيرًا ملحوظًا في الوعي العام تجاه القضية الفلسطينية، هذا التغير أحدثه طوفان الأقصى.