شهداء الجيش العربي الاردني..ابوك نايم عند أهله في فلسطين.."جفرا نيوز" ترصد اشراقات الدم الارجوان


جفرا نيوز- فلسطين-محمود كريشان

فوق طهر الثرى الفلسطيني، تمتزج أرواح شهداء قواتنا المسلحة الباسلة من أبناء الجيش العربي الاردني، وتختصر المسافات معلنة الجهاد وهي تعانق الارض على ضفتي الاردن مسرى دمنا ودروبنا الى القدس الشريف، عندما شقوا طريقهم نحو النصر او الشهادة، وقد «انتخوا» لمحاربة العدو الصهيوني في باب الواد واللطرون والمغاربة والشيخ جراح وقلقيلية وجنين واليامون ونابلس وفي كافة مناطق فلسطين.

نتصفح بطولات أحد فرسان القوات المسلحة الاردنية الشهيد المقدم صالح شويعر، حيث كانت الساعة تشير إلى نحو الثانية ظهرا يوم (7) حزيران من عام 1967 وهو اليوم الثالث لحرب الايام الستة.. كانت منطقة وادي التفاح غرب مدينة نابلس عاصمة جبل النار، تشرق بفروسية قعقعة سلاح كتيبة الدبابات الثانية بقيادة المقدم صالح الشويعر.. كانوا مقبلين غير مدبرين، يتسابقون نحو الشهادة وصدى هدير دباباتهم ومدافعهم يعطر المكان والزمان وهم يذودون عن الارض، وينتشون بدعاء الامهات يقطع المسافات من القرى الاردنية وعبر الاودية نحوهم: «يا ابني.. الله معك».. وعندما يسأل أبناء جنود الجيش العربي أمهاتهم عن سبب غياب آبائهم فترات طويلة دون ان يعلم الاطفال ان الاباء قد نالوا شرف الشهادة ودفنوا في الارض الطيبة في فلسطين، كان جواب الأمهات الصابرات ملامسا للوجدان العربي: «أبوك نايم عند إهله في فلسطين».

شهادة حية

نفتح اليوم دفتر الخالدين عند ربهم، ونتمعن تفاصيل البطولة لمعركة وادي التفاح، وفيها قصة بطولة يرويها لـ «الدستور» احد جنود الجيش العربي الذين كان لهم شرف الجهاد والمشاركة فيها، وهو الوكيل المتقاعد عبدالله ناصر ابوسحينة الهقيش بني صخر من قرية ام الرصاص حيث يقول: إنها قصة رائعة كتبت بالدم وكان الاستبسال.. وكان الصمود أسطوريا، دبابة واحدة يقودها بطل من ابناء القوات المسلحة الاردنية الباسلة، قائد كتيبة الدبابات الثانية الشهيد المقدم صالح عبدالله شويعر، الضابط المتميز في الجيش العربي الأردني، الذي أطلق عليه النابلسيون اسم الشهيد أبوهاشم، حيث جاءت هذه التسمية من عبق التضحيات لهذا الجيش الهاشمي الابي، رغم ان كنية الشهيد شويعر هي «أبوعلي»، وهو أب لثلاثة أطفال: علي وناصر وفايز، حيث وقف المقدم شويعر قبل الالتحام المباشر مع قطعان العدو وقال: «العدو امامنا وثأرنا مخبوء منذ عام 1948 ودم شهدائنا امانة في اعناقنا، وعيب علينا ان لم ننتقم لدمنا، من يريد ان ينسحب فهو مثل النساء تحرم عليه الشمغ حمرا هدايبها.. ومن يريد الشهادة فليمض خلفي..لا اله الا الله، محمد رسول الله.. الله أكبر».

ويضاف الهقيش: بدأت المعركة واستمرت ثلاث ساعات.. كان جيش الاحتلال الصهيوني قد دخل مدينة نابلس في الساعة الثانية عشرة بلواء مدرع من بوابة نابلس الشرقية عن طريق وادي الباذان قادما من مدينة بيسان، وكان من المقرر أن يلتقي بلواء مدرع آخر يدخل نابلس من بوابتها الغربية، وكانت المدرعات قد خرجت من بلدة الخضيرة. معركة وادي التفاح قادها شويعر بحنكته وشجاعته ومعه الشهداء الابرار «سليمان عطية الشخانبة» و»صياح فياض الفقراء» و»راشد موسى نمر العظامات»، الذين صمدوا في مواجهة الجيش الاسرائيلي الغازي لمدينة نابلس فصدوه ولم يقدر على اجتيازهم الا بعد ان استعان بسلاح جوي.

ويقول الهقيش: لم تتمكن المدرعات الغازية بمساعدة الطيران من أن تدخل المدينة إلا عند الساعة السابعة مساء، وهي لحظة استشهاد المقدم شويعر الذي كان فارسا لم أر في فروسيته أحدا، وقد قضى على أعداد كبيرة من جنود العدو حتى نفذت من دبابته الذخيرة، ليتجه بتلاحم مباشر مع دبابات العدو يمضي نحوهم غير آبه بنيرانهم وأخذ يصدم دبابتهم واحدة تلو الاخرى وتمكن من إعطاب ثلاث دبابات لهم عن طريق الصدم القوي المباشر فقط الى أن نال الشهادة بإذن الله تعالى.

نابلس تحتفي بعريس الشهادة

وكان الراحل حافظ داوود طوقان رئيس بلدية نابلس الاسبق قد تحدث عن البطل شويعر حيث قال: في أبشع صباح، وكان صبيحة يوم الخميس الثامن من حزيران وعند الساعة السابعة، وصلت إحدى سيارات الاطفاء التابعة لبلدية نابلس بلونها الأحمر وقد رفع عليها علم أبيض، فاتجهت نحوها مسرعا لأرى زميلين من أعضاء المجلس البلدي بداخلها، ولتأخذنا إلى دار البلدية وسط المدينة.. رأيت ما لم أكن أتوقع أن أراه في حياتي: جنودا وضباطا وسيارات «جيب» تنبعث منها أصوات أجهزة الاتصال ومدرعات منتشرة أمام مداخل البلدة القديمة وعلى مفارق الشوارع، رأينا المجندات اليهوديات.. دخلنا دار البلدية واتجهنا نحو قاعة الاجتماعات، كان رئيس البلدية المرحوم حمدي كنعان موجودا ومعه عدد من أعضاء المجلس البلدي وأخبرنا أن الضابط الصهيوني الذي احتل المدينة في طريقه إلينا، وبالفعل دخل علينا، وبدون اتفاق مسبق، لم ينهض أي واحد منا من مقعده ولم يصافحه أحد منا.. شعر هو بذلك، وحاول أن يكون لطيفا ومهذبا، وقال باللغة العبرية ما ترجم إلى العربية على الفور: وقع ما وقع وعليكم أن تتعاملوا مع هذا الواقع الجديد خدمة للمدينة والسكان، أطلب نقل الموتى ودفنهم حالا وأكثريتهم عند مداخل المدينة غربا وشرقا وإعادة التيار الكهربائي حتى تتمكن مضخات الماء من العمل، استدعوا كبار الموظفين وجميع المهندسين والفنيين وقسم الصحة وسأعطيهم التصاريح اللازمة.. ثم رأيناه يوجه كلامه إلينا ويقول: أريد أن أقول لكم شيئا لا علاقة لكم به، يوم أمس غرب المدينة وعند الظهر تعرضت قواتنا لمقاومة «غير عادية»، مدرعة للجيش الأردني تصدت لنا وقاتلت بشراسة، وفي النهاية تمكنا منها ودمرناها وقتل قائدها، وقد احترمه جنودنا فأعدوا له قبرا دفن فيه بعد أن أدى جنودنا له التحية العسكرية.

موقع الضريح

يضيف طوقان: هذا الكلام شد من أزرنا ورفع من معنوياتنا المحطمة، فطلبنا زيارة الموقع وقد تم ذلك.. وصلنا موقع الضريح وقرأنا الفاتحة ووضعنا من حوله بعض الأحجار لتحديد مكانه، وبعد ذلك تم بناء ضريح من الاسمنت على عجل، وبعد أن وضع أحد مهندسي البلدية، وهو ماهر الحنبلي، تصميما لاقامة نصب تذكاري في الموقع وبدأنا بالعمل، أخطر الحاكم العسكري البلدية أن وزير الحرب موشيه ديان يرفض ذلك، حيث توقف العمل بأمر عسكري احتلالي.

وأشار طوقان الى أن ضريح شهداء معركة وادي التفاح أصبح معلما استشهاديا ووطنيا كبيرا في مدينة نابلس، وأن الأطفال الصغار يستمعون بلهفة إلى الكبار وهم يحدثونهم عنه، والجميع وضعوا الضريح بقلوبهم وفوق رؤوسهم ويعتبرونه أمانة غالية في أعناقهم وإلى الأبد.

ويضيف: حينما كنت أشغل منصب رئيس بلدية نابلس لاحظت أن الضريح بدأ يتآكل وأصبح في وضع لا يليق بمقام الشهداء، فقررت أن نقيم ضريحا باستبدال الاسمنت بالحجر ووضع أسماء الشهداء بشكل بارز، وكان ذلك بالذكرى العشرين في شهر حزيران من العام 1987، وأرى أن من واجبي أن أذكر أن مشيد الضريح رفض أن يتقاضى فلسا واحدا وقال «ثوابي عند الله والشرف الذي نلته من القيام بهذا العمل أكبر من مال الدنيا بأسرها».

هذا وقد كتب على شاهد القبر «الفاتحة للراقد في هذا الضريح المقدم صالح عبد الله شويعر (أبو علي) بطل معركة المدرعات التي وقعت في وادي التفاح بنابلس يوم الأربعاء 7 / 6 / 1967 رحمه الله».

كما كتب أسفل الشاهد: بسم الله الرحمن الرحيم «وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» صدق الله العظيم.

وتم نقش أسماء رفاق الشهيد البطل شويعر في معركة الدبابات على ضريحه، وهم الشهداء: ملازم أول سليمان عطية سليم الشخانبة، رقيب أول صياح فياض عواد الفقراء، جندي أول راشد موسى نمر العظامات.

إذا.. في كل منطقة وحي من أحياء القدس، والحال كذلك في نابلس والخليل وسائر أرجاء الضفة الغربية، حيث كان للجيش العربي الاردني بطولات ما زال أهالي تلك المناطق ممن عاصروا تلك الفترة يروونها للاجيال اللاحقة، لتكون مشاعل ومنارات عز وفخر بمن هم «أحياء عند ربهم يرزقون».
kreshan35@yahoo.com