حوار حيّ ومباشر
بشار جرار
... وكأنها لازمة، اقتران البث الحي بالتغطية المباشرة. عبارة ألفناها منذ تحول ذلك النوع من الإرسال الإذاعي والتلفزيوني ومن بعده البث الالكتروني فيما يعرف ب «ستريمنغ»، منذ تحوله إلى مرغوب بعد أن كان مألوفا ومن قبل استثنائيا.
يعلم العارفون بدهاليز المطبخ الإعلامي السياسي أو العكس أن من أهم القرارات التي يتخذها صناع القرار هو هل نذهب بتغطية هذا الحدث أو ذاك الخبر إلى بث حي ومباشر أو تسجيل نعيد بثه كاملا أو بعد التدخل في محتواه السمعي أو البصري أو كلاهما بالمونتاج وما شابه من تأثيرات إليكترونية.
استنت حكومات جلالة الملك، سنة حميدة استلهمتها من لدن سيدنا عبدالله الثاني والراحل العظيم الحسين طيب الله ثراه وكتب مقامه في عليين، بإيلاء الميدان الأهمية القصوى. العبرة ليست فقط الميدان من حيث الوصول إلى الأردنيين حيثما وكيفما كانوا في المدن والقرى والبوادي أو ضيوف المملكة من اللاجئين الفلسطينيين وضحايا «الربيع العربي» و»الفوضى الخلاقة»، بل في كيفية ذلك التواصل بكل تفاصيله التي مازالت محفورة في العقل والوجدان نذكرها منذ أيام الأبيض والأسود والبث الموحد المحصور في بضع ساعات يوميا تبدأ وتنتهي بالسلام الملكي.
الصور التي تبقى في الذاكرة الوطنية هي للأردنيين الذين لا يحبون الكلفة ولا التكلف، يعشقون الحكي الأردني بلسان أردني فصيح على تعدد لهجاته. يعرفون كيف يروزون الرجال ويحفظون قدر فعالهم ويأخذون كلامهم حتى وإن رافقه المزاح الطيب النقي العفوي بمنتهى الجدية. الصادقون لا يكذبون ولا يحترمون من لا يصدقهم القول حتى وإن تعذر تحويل بعض الأقوال إلى أفعال. صاحب العذر لا يلام خاصة إن سلمت النوايا وشارك المعنيين بأسباب أي تقصير، تأخير، تعديل أو حتى تراجع عن وعد قطعه من أحسن الظن وخيبته ظروف خارجة عن إرادته عن تحقيقه.
العبرة في المبادرة شريطة أن يتم إخلاص النية في إنجاح التواصل الصادق بين الضيف والمضيف فالجميع اصحاب بلد وابناء البلد والأردن فضله على الجميع مواطنين ومقيمين أيا كانت ظروف تلك الإقامة لجوء قديم أو جديد. الغاية إنجاح هذا النهج الهاشمي العبدلي المبارك الذي تواصل فيه حكومات سيدنا منذ ربع قرن الحرص على ترسيخه وهو خدمة الناس والتواصل معهم تواصلا حقيق يا تفاعليا، مع وبدون تغطية إعلامية. نذكر بفخر ذلك النهج الحسيني العبدلي الذي استخدم الزيارات السرية في تفقد أحوال المواطنين بعيدا عما تحدثه أحيانا التغطيات الإعلامية من أصداء لا تلبي الغاية منها، مما يعيق تحقيق الهدف المنشود ألا وهو خدمة الناس لا تسجيل نقاط ولا مواقف دعائية من أي طرف كان حكوميا أو نيابيا أو حتى شعبيا. الزيارات الميدانية للمسؤولين القائمين على رعاية مصالح المواطنين في قطاعات تصب في صميم اختصاصاتهم ليست ساحة استعراض للقوى ولا للقدرات. لا هي بسوق عكاظ ولا بغرف الدردشات على منصات التفاخر والتناحر، الاستظراف والتذاكي، والتندر والتذمر والتنمر الاجتماعي.
لا يغيب عن بال القائمين على هذه التغطيات المقبلة للجولات الميدانية التي أعلن عنها رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان وفقه الله وفريقه الوزاري أن الكيفية التقنية تلعب دورا كبيرا في تحقيق المراد. لا حرج في التأسيس لجو جديد من الحوار الحي والمباشر، الحوار التفاعلي باللهجة العامية بين الوزراء والمسؤولين والمواطنين يشكل سنة حميدة لأجواء جديدة من الحوار تحت القبة في مجلس الأمة العشرين. من المهم جدا بعد ما تركته بعض المسيّرات والمهرجانات من أضرار جانبية على طبيعة الحوار، شكله، مفرداته ونبرته، من المهم للغاية تخفيف «الإنشاء» والخطابية والانفعالية في الحوار، الصوت الهادئ الرصين أقوى من الصوت العالي الحاد.
كما تبين من تجارب عديدة وطنيا وإقليميا ودوليا، الكثير من أصوات ما قبل الاقتراع، تصير تصويتا يفرز برلمانات ويشكل حكومات. وعليه، فإن الحوار الوطني الميداني الذي سنراه في عمر هذه الحكومة إنما هو صناعة لمستقبل التحديث السياسي والإداري الذي نتطلع إليه جميعا. ونذكر بالخير رأيا سديدا لأول رئيس حكومة في عهد سيدنا نصره الله وأعز ملكه، عندما قال عبدالرؤوف الروابدة «إن مشكلتنا في الأردن إدارية لا سياسية». ألف باء الإدارة والقيادة هي الحرص على التعامل بروح الفريق والنهج المؤسسي التراكمي، وهذا الأمر يعنينا جميعا في الصميم لا الحكومة وحدها. ننتظر الجولات الميدانية والحوار الوطني بفارغ الصبر بصرف النظر عن طبيعة التغطية مباشرة كانت أم غير مباشرة المهم أن تكون حية.