شهادة إبداعية عن مسيرة حياة الدكتور محمد ناجي العمايرة
مصطفى توفيق ابو رمان
محمد ناجي عمايرة أمين النّهضة العربية الكبرى
"أنتمي إلى جيل وُلِدَ من رحم المعاناة والحرية ماء الحياة"، هكذا يعرّف الشاعر الصديق العقيق محمد ناجي العمايرة (أبو لؤي) أستاذ علم الاجتماع السياسيّ على نفسه وعلى أبناء جيله، وهكذا يصف الحرية غاية غايات الأرض والتوق الإنسانيّ الذي لا ينتهي بالتقادُم.
ابن السلط البار.. له من أبو علندا نصيب. ومن عمّان كلها كذلك.. وهي جميعها بلقاء حتى أعالي الندى واليقين.. أما وادي السير فكان تأثره الشعريّ الثقافيّ به إجباريّ حين في إعداده الثاني كتب متغزّلًا: "لقد مرّت مساء الأمس مرّت ترتدي الأخضر.. جميل في مفاتنهِ ونظرة عينها تسحر".
ابن المد القومي حين كان على أشدّه.. علاقته الخاصة مع أمّه وجدّته الزعبية لأمّه تمخّضت عن ثلاث قصائد بثلاث جوائز.. وهنا لا بد، ربما، من إيراد قصة حدثت معه وهو في الصف الثاني الإعدادي، عندما شارك بمسابقة كانت تنظمها مدارس الأقصى، ومديرها آنذاك العلامة القامة يوسف العظم، وكان العظم رحمه الله يقابل المتسابقين بنفسه، وحين وقعت بين يديه قصيدة حبيبنا، امتلأ دهشة وإعجابًا وحيرة بين النص وعمر صاحبه، ليسأله إن كان منه أم من منقوله، ليأتي الجواب المفعم بالرجاحة والنضوج المبكّر من صديقنا وحبيبنا، وبما معناه أنه ما كان ليشارك في هذا المقام ومن باب الاحترام بنص ليس له، فما كان من العظم إلا أن طلب منه تغيير قافية القصيدة، وبخمس دقائق، أو أقل، كان شاعرنا المبدع قد فعل ذلك ناظمًا 25 بيتًا جديدًا على البحر نفسه والرويّ كذلك، ولكن بقافية جديدة، فكانت الجائزة الأولى لِعيون الأم وعيون أمّهاتنا جميعهنّ.
وهو في الصف الثاني الثانوي نشر لأوّل مرّة في مجلة "هدي الإسلام" التي كان يرأس تحريرها آنذاك الشيخ العلامة عز الدين الخطيب التميمي قصيدة عن فلسطين. يعشق اللغة العربية: "نشأت مع الفصحى صغيرًا.. ومع شعرائها خضتُ العُبابا". ينتمي إلى زمن الحروف وعبق الورق.
في قصيدته الثريّة "خبزٌ وماء" يصبّح على فجر الفاكهة.. يأخذ نفسًا عميقًا من عطر الورد.. يعزف الألحان بناي العطاء.. صوته لسان الصدق.. وجميعنا بانتظار غودو. جميعنا نحلم أن نمتطي فرس الضياء.. أن تلاقينا بسمةٌ من جدول ما، ماؤه عبق اشتهاء.. هي أغنية الحصاد الطالعة من خبزٍ وماء.
أبو لؤي يرى أن السردية الصهيونية قامت على التزييف والاختلاق والتزوير سواء على مستوى التاريخ القديم أو الحالي، مشيرًا إلى ما قاله الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي في كتابه الصادر في العام 1995 بعنوان: "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" بأن هناك مجموعة من الأساطير تقوم عليها السردية الإسرائيلية المعاصرة ومنها أساطير تأخذ بعدًا دينيًا مثل أسطورة الأرض الموعودة وشعب الله المختار والتصفية العرقية،، ومنها أساطير معاصرة مثل معاداة السامية والمذبحة أو الهولوكوست في العهد النازي وأسطورة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
في رثائه لصديقه علي الفزاع يبوح قائلًا:
"حينما أسبل جفنيه للنوم
وغاب
كان نسرًا
يرتقي متن السحاب
عالي الهمّة يعلو ثم يعلو
لم يكن يخشى تباريح الغياب"
إلى أن يقول:
"آهٍ تلك الذكريات
والليالي الممطرات
والهوى عذْبٌ كما الصفو الزُلال
وتعاريج الخيال
كلها تزهو بأحلام الرجال".
ولأن المعنى يوصلنا إلى معاني متماهية معه، فإن الجيل الذي يمثّله شاعرنا وصديقنا وحبيبنا لا يقتصر على الفزاّع لروحه الرحمة والسلام، ففيه، قبله قليلًا، وبعده قليلًا، شعراء وكتّاب قصة، ونقّاد، وإعلاميون، ورجال دولة، ومبدعون كثيرون: خالد الكركي، مؤنس الرزاز، محمود فضيل التل، عبد الله رضوان، إبراهيم العجلوني، وليد سيف، حيدر محمود، راشد عيسى، مأمون فريز جرّار، جهاد الجيوسي، توجان فيصل، سهير سلطي التل، فايز محمود، سليمان الأزرعي، محمد سمحان، عبد الفتاح عمرو، عبد الرزاق الحاج عبد الرحيم حسين، عبد الله الشحّام، عز الدين المناصرة، غازي الجمل، كمال رشيد، مازن شديد، محمد الظاهر، محمد ضمرة، محمود الشلبي، مقبل المومني، محمد مقدادي، مهنا أبو غنيمة، نزار عوني اللبدي، يوسف مقدادي وكثيرون غيرهم. رحم الله من قضى منهم وأطال بعمر أحيائهم. بعضهم يعرفهم حق المعرفة وأنشأ من مجموعة منهم "رابطة أصدقاء الكناري" الرومانسية الإبداعية عندما كانت الجامعة الأم تحتشد بالقامات، وبعضهم ربما لن يتح لأبي لؤي التعرّف عليهم، أو الالتقاء بهم. وعلى سيرة القامات، وعلى سيرة الجامعة الأم، فقد أتيح لحبيبنا ومبدعنا أن يدرس على أيدي قامات عربية أكاديمية مشهود لها: المصريان شوقي ضيف ومحمد طلعت عيسى، والفلسطيني ربحي كمال، والأردنيون: ناصر الدين الأسد، الياغيان هاشم وعبد الرحمن، عبد الكريم خليفة، نهاد الموسى، وعبد الرحمن عدس وقائمة تطول.
قوميٌّ بالفطرة.. عروبيٌّ حتى النخاع.. يرى نفسه جزءًا لا يتجزّأ من النهضة العربية الكبرى.. فهو ربيبها وأمينها قبل أن يكون أمين عام وزارة الثقافة الأردنية.. ترعرع في أوج صعود القومية والوجدان العربي الجامع.. في وجدانه عُمان.. تمامًا كما في وجدانه مصر والعراق وفلسطين وسورية ولبنان.. وكل بلاد العُرْب أوطاني من نجد إلى يمن إلى تطوان.. عروبيّ الهوى.. ويسعى أن يكون دائمًا مع أمّته.
من زاوية في صحيفة "الرأي" سطعت الحكاية جميعها.. بدأت علاقته مع الصحيفة الأولى منذ بداياتها قبل خمسة عقود ونيّفٍ من الزمان.. ومنذ بدايات صحيفة "عُمان" العُمانية في العام 1972، بدأت مسيرته التأسيسية لعدد من المشاريع العربية الرائدة.
هو مع الشعب الذي يرفض التطبيع ومنه وفي قلبه. أما تثبيت الحق الفلسطيني فهو عنوانٌ جوهريٌّ تأسيسيٌّ يكرّس جهده له.
عناوين ومقالات وجهد ونقد وإنجازات.. أما المسرح فهو المكان الذي يجد نفسه فيه.. علاقته معه وطيدة، وله معه ذكريات جميلة قارئًا ومشاهدًا.. وهو يرى فيه فعل حرية أكيد وأحد أهم عوامل تشكيل الهوية.
من عناوين مقالاته في جريدة "الرأي": "القدس وفلسطين أولاً، وقبل كل شيء"، "عن الهوية بين الخصوصية والعالمية"، "عبد السلام المجالي كما عرفناه"، "النصر يليق بغزّة"، "شيرين أبو عاقلة شهيدة الحق والحرية"، "لنعزّز صمود غزة وندعم المقاومة"، "نحو مشروع وطني متكامل للإصلاح الشامل"، "تحركات عربية نحو تضامن عربي حقيقي"، "في معنى الانتماء"، "أغنيات حب للوطن الجميل"، "كنّا معًا وسنبقى معًا من أجل القدس وفلسطين"، "الصحف الورقية والأزمة التي تواجهها.. إلى متى؟!"، "هجمة إعلامية صهيونية خبيثة على الموقف الأردني"، "غضبة الملك ومواقف الأردن الثابته تجاه فلسطين"، "الاحتلال الأسرائيلي وكورونا أيهما الأخطر!"، "الصحافة والإعلام تلازم الحرية والمسؤولية"، "وطن الكبار سينتصر"، "نحو مشروع وطني جامع مانع"، "وعد بلفور ووعد ترمب..!"، "لبنان يا وجعي ويا وجع الأمة!"، "نحو مؤتمر وطني لتطوير التعليم العالي"، "محمود الكايد.. العميد والعمدة والمعلم" وعناوين ومقالات أخرى كثيرة. على سيرة (أبو عزمي) لروحه الرحمة والسلام، فإن حبيبنا أبو لؤي يذكره دائمًا بالخير، وهما كانا، أطال الله في عمر أخينا ومبدعنا، من أعمدة تأسيس "الرأي"، فردوا مساحة للرأي الرسميّ، واحتضنوا الجسم الصحفيّ المحليّ.
أبو لؤي غسل يديهِ من فرص سلامٍ مع العدو الصهيوني، ودائمًا ما يسأل: ماذا أنتجت كل اتفاقيات السلام مع الكيان؟ محذرًا، على طول، من الأطماع التوسعية لدى حكومة التطرّف والإرهاب الصهيونية الحالية. في مقابلة مع التلفزيون الأردني يقول: "كلما جاءت أمّة لعنت أختها" في إشارةٍ لتزايد التطرّف والعنصرية لدى الحكومات الصهيونية المتعاقبة. ويقول إن "جيشهم ليس له من الدفاع نصيب"، مطالبًا بموقفٍ عربيٍّ ودوليٍّ يدعم صمود الشعب الفلسطينيّ.
في رثائه المناضل القومي بهجت أبو غربية يصفه بأنه "فتى القدس" ويضيف في وصفه قائلًا إنه "مقدسيّ النشأة والتعليم.. خليليّ الأصل.. فلسطينيّ الجذور.. عربيّ الهوية والانتماء.. قوميّ الفكر بلا تردد ولا ادعاء ولا قولبة".
أبو لؤي غرس في وجدان ابنه المحامي لؤي مبادئ الانتماء الراسخة والصدح في قول الحق والنبش عن الحقيقة وكرّس في أعماقه مقولة ملكية سامية "حرية سقفها السماء".
وهو يرى ويؤكد أن الأردن يتصدّر المشهد السياسي العربي في الدفاع عن ثوابت الأمّة ومقاومة المحاولات الصهيونية المدعومة أميركيًا لطمس هوية الأرض والإنسان في فلسطين وفقًا لخطة ترمب المسماة "صفقة القرن".
في شعره عبق المكان.. عبير الأرض الخصبة.. وشم المُزارِع الذي كانه أبوه.. في حروفه أوجاع الغربة.. سناسل البيوت الريفية المحاطة بالكروم.. أنين الإيغال في الغياب.. بوْحُ الحَنايا ونوْح المَنايا:
"موغٌل في الغياب
ممعٌن في السفْر
طاعٌن في الذهاب
بين كٍر وفّر
سادرٌ في العذاب
يا ليالي النّوى
هّده الاكتئاب
وَبَراه الجَوى
أيها المدبجُ
فـي زوايا السراب
أين المخرَجُ
من حصاِد الذئاب؟
كلنا يلهَجُ
والهواءُ ما استجاب!
هوذا واقفٌ
بين ريحٍ وروحْ
والرّدى طائفٌ
والمنايا تنوحْ
أيها النازِفُ
والحنايا جروحْ".