مدن تغرق ببطء: الاحتباس الحراريّ بدأ

في صباح يوم الاثنين، ضرب الإعصار "بابينكا" المنطقة الساحليّة "لينجامج" في شنجهاي، المركز الاقتصاديّ الكبير في الصين، وحسب تقارير وسائل إعلام صينيّة، فقد تمّ إجلاء أكثر من 400 ألف، بالإضافة إلى 9 آلاف تمّ إجلاؤهم من منطقة شونج مينج بالقرب من نهر يانج تزو في شنغهاي، وتقدّر الحصيلة النهائيّة لمن تمّ إجلاؤهم بـ 414 ألفًا.

يعدّ ذلك الإعصار الذي تشهده الصين هو الأكثر قوة منذ 75 عامًا، وأعلنت وسائل إعلام صينيّة أنّ شخصين توفّيا، بينما أصيب آخرون بالإضافة إلى الدمار الكبير في البنية التحتيّة وانقطاع التيّار الكهربائيّ في المدن المحيطة في شنجهاي المتأثّرة بالإعصار. الرياح العاتية والأمطار الغزيرة تسبّبت بتعليق الرحلات الجوّيّة ورحلات العبارات البحريّة والخطوط القطارات، وأغلقت المدارس كإجراء احتياطيّ، وأغلقت الطرقات الرئيسة، وتمّ فرض حدّ أعلى للسرعة في الطرق الداخليّة بـ 40 كم/ساعة، وتمّ تحذير المواطنين بالبقاء في منازلهم. شنغهاي الّتي يسكنها 25 مليون نسمة تأثّرت بسرعة رياح وصلت إلى 151 كم/ساعة رافقها أمطار غزيرة.

ويعدّ ذلك الإعصار الثاني الّذي يضرب الصين خلال الشهر الحاليّ حيث قتل على الأقلّ 4 أشخاص وجرح 95. الإعصار "ياغي" ضرب جزيرة هاينان جنوب الصين حسب وكالات التنبّؤ بالطقس الصينيّة، وتسبّب بفيضانات في جنوب شرق آسيا، ولقي المئات حتفهم في فيتنام وميانمار.

الاحتباس الحراريّ، تاريخ موجز

تاريخ الاحتباس الحراريّ والتغيّر المناخيّ ليس حديثًا جدًّا، في العام 1989 بدأ الحديث في الفضاء العامّ عن طبقة الأوزون والتغيّر المناخيّ، وشكّلت الأمم المتّحدة في ذلك الوقت أوّل ندوة داخليّة في شهر تشرين الثاني/يناير لتحديد القطاعات البيئيّة المتأثّرة، وشكّلت في حينه "الهيئة الحكوميّة الدوليّة المعنيّة بتغيّر المناخ" IPCC وتمّ الاجتماع الأوّل للجنة في شهر كانون الثاني/نوفمبر من نفس السنة. عرفت الجمعيّة العامّة التغيّر المناخيّ بأنّه موضع طارئ يستلزم الدراسة لكونه تحدّيًا في المستقبل، وطلبت من هيئات أخرى في الأمم المتّحدة العمل على تقرير وتقديم توصيات لتأخير أو الحدّ أو تفادي تأثير التغيّر المناخيّ، وتمّ تبنّي الإعلان العالميّ لحماية طبقة الأوزون في شهر أيّار/مايو، ودخل العمل بروتوكول مونتريال للموادّ الّتي تستنزف طبقة الأوزون، ونقلت المالديف إعلان ماليّة العالميّ عن الاحتباس الحراريّ وارتفاع مياه البحر إلى الأمين العامّ للأمم المتّحدة خافيير بيريز في ذلك الوقت.

الأمر ليس جديدًا، يشير بعض الخبراء إلى أنّ بداية الحديث عن التغيّر المناخيّ كان منذ الإغريق. حينها، تمّت مناظرات كثيرة بين الإغريق حول ما إذا كان قطع الأشجار والغابات وإفراغ المستنقعات سيقلّل من الهطول المطريّ. تلك المناظرات الموثّقة، حسب المعهد الأميركيّ لتاريخ الفيزياء، تعدّ أوّل نقاشات حول الموضوع.

واستمرّ العمل حول الموضوع عن طريق العلم السويديّ سفانت أرينيوس الّذي "تخيّل" أنّ البشريّة بإمكانها تغيّر المناخ على الكرة الأرضيّة، ونشر أرهينيوس حسابات تشير إلى أنّ إضافة ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء يمكن أن ترفع درجة الحرارة، ونشرت تلك الحسابات في مجلّة لندن وأدنبره ودبلن الفلسفيّة.

بدوره نوّه العالم يونيك نيوتن إلى أنّ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وأبخرة المياه يمكنها أن تحتفظ بالحرارة في الجوّ.

ومع اكتشاف النفط في القرن التاسع عشر، وتوسّع التنقيب واستخدام الذهب الأسود في القرن الماضي ازدادت الانبعاثات الكربونيّة بشكل كبير، أضف إلى ذلك ظهور الثورة الصناعيّة في بريطانيا بنهاية القرن الثامن عشر حتّى بداية القرن العشرين، واختراع المحرّك البخاريّ، واختراع السيّارات الّتي جعلت استهلاك الوقود الأحفوريّ يزيد بشكل كبير. كلّ ذلك ساهم أكثر وأكثر بزيادة الانبعاثات الّتي تسمّى "Greenhouse emission effect" وهي كما يشير المجتمع العلميّ إلى مجموعة الانبعاثات من استخدام الوقود الأحفوريّ الّتي بدورها تحبس الحرارة في الجوّ وتزيد من درجة حرارة الأرض.

في الخمسينات من القرن الماضي بدأ العلماء بدقّ ناقوس الخطر بشكل جدّيّ، حيث اكتشف العلم روجر ريفيل أنّ المحيطات لا يمكنها استيعاب كلّ الانبعاثات الكربونيّة الّتي ينتجها البشر وبالتّالي فإنّ درجات الحرارة في الجوّ سترتفع بشكل كبير، وبعد 3 سنوات من ذلك الاكتشاف، جاء العالم تشارلز كيلينغ لنشر دراسة منفصلة تتوقّع ارتفاعًا سنويًّا في الانبعاثات الكربونيّة، ومن ثمّ بدأ المجتمع العلميّ بإطلاق التحذيرات، واستمرّ الحال حتّى نهاية الثمانينات حين استجابت الأمم المتّحدة لتلك التحذيرات.

خطر الاحتباس الحراريّ

في عام 2015، في العاصمة الفرنسيّة باريس، وقعت 196 دولة على اتّفاقيّة الاحتباس الحراريّ، الاتّفاقيّة الّتي دخلت حيّز التنفيذ في كانون الثاني/نوفمبر في السنة الّتي تليها، هي اتّفاقيّة ملزمة قانونيًّا لكلّ الدول الموقّعة، وأهداف الاتّفاقيّة هو "إيقاف معدّل ارتفاع درجات الحرارة لأقلّ من 2 درجة إلى مستويات ما قبل الثورة الصناعيّة" ومتابعة الجهود "للحدّ من ارتفاع درجات الحرارة إلى 1.5 فوق ما قبل نسب الثورة الصناعيّة".

ولكن في السنوات الأخيرة، شدّد قادة عالميّون على الحدّ من الاحتباس الحراريّ عند 1.5 درجة مئويّة مع نهاية القرن، ويأتي ذلك على أثر الخطّة الّتي وضعتها الأمم المتّحدة، والّتي تشير إلى أنّ ارتفاع درجات الحرارة أكثر من 1.5 مئويّة يعرّض الكرة الأرضيّة إلى آثار شديدة للتغيّر المناخيّ، ومنها موجات جفاف كبيرة وموجات حرارة غير مسبوقة.

ولفعل ذلك يجب على الانبعاثات الكربونيّة أن تصل إلى قمّتها خلال عام 2025 كحدّ أقصى ومن ثمّ تبدأ بالانخفاض حتّى تصل إلى أقلّ بنسبة 43% في العام 2030.

وتعدّ اتّفاقيّة باريس خطوة كبيرة لمواجهة الاحتباس الحراريّ، لأنّه ولأوّل مرّة يتمّ الاتّفاق على صيغة قانونيّة ملزمة لمحاربة الاحتباس الحراريّ بشكل جماعيّ.

من الجدير بالذكر أنّ الولايات المتّحدة، وفي عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وفي قرار مفاجئ للمجتمع الدوليّ، طلبت الانسحاب بشكل كلّيّ من تلك المعاهدة في سنة 2019، وفي الوقت الّذي يتعهّد رئيس الوزراء اليابانيّ بتقليص الانبعاثات الكربونيّة في اليابان إلى "صفر" بحلول العام 2050، واتّخاذ الاتّحاد الأوروبّيّ والصين خطوات مماثلة عن طريق صياغة سياسات تعمل على خفض الانبعاثات، تنسحب إدارة ترامب من الاتّفاقيّة بعد الأزمة الاقتصاديّة بسبب جائحة كورونا.

وتعليقًا على الانسحاب الأميركيّ تقول راشيل كليتوس، مديرة السياسات في برنامج المناخ والطاقة في اتّحاد العلماء المعنيّين "بينما الدول الأخرى تصميم سياسات تناسب سياقاتها الوطنيّة لخفض الانبعاثات، وتقوم بخطوات واعدة يمكن ترجمتها بالكثير من العمل، تنسحب الولايات المتّحدة من الاتّفاقيّة لتصبح معزولة تمامًا؛ لأنّها الدولة الوحيدة الّتي قامت بذلك".

يذكر أنّ الانبعاثات الكربونيّة في الولايات المتّحدة بلغت 5,489 مليون متر مكعّب و 6,343 مليون متر مكعّب من الغازات الأخرى، وارتفعت النسبة بواقع 1% في الدولة الّتي تصنّف الأعلى استهلاكًا للوقود الأحفوريّ، النفط والفحم والغاز الطبيعيّ، في العالم بواقع 19.1 مليون برميل نفط يوميًّا و 32 مليار متر مكعّب من الغاز الطبيعيّ سنويًّا، يليها في القائمة كبرى الدول الصناعيّة مثل الصين والهند وروسيا واليابان والسعوديّة الأعلى عربيًّا وكوريا الجنوبيّة والبرازيل.

تأثير الاحتباس الحراريّ

بحسب تقرير الأمم المتّحدة لعام 2021، فإنّ درجات الحرارة في العالم ارتفعت 1.1 درجة مئويّة بين العام 1901 والعام 2020، ولكنّ التغيّر المناخيّ مسألة معقّدة لا يتمّ قياسها فقط بارتفاع درجات الحرارة، إذ يقاس أيضًا بارتفاع مياه البحر والتغيّر في أنماط المناخ مثل الجفاف والفيضانات وأكثر من ذلك، ويأتي ذلك التغيير بأمور أساسيّة يعتمد عليها الإنسان في حياته مثل الماء والطاقة والمواصلات والحياة البرّيّة والزراعة والنظم البيئيّة والصحّة. كلّ تلك القطاعات تعاني من آثار بسبب التغيّر المناخيّ.

وبينما يمكن تحديد ذلك التغيّر في العالم كله، إلّا أنّ هناك دولًا متضرّرة أكثر من أخرى. حسب تقرير برنامج الغذاء العالميّ التابع للأمم المتّحدة، فإنّ هناك 8 دول تمرّ بكوارث طبيعيّة مدمّرة بسبب التغيّر المناخيّ. جنوب السودان على رأس القائمة، حيث تجتاح تلك الّتي تعاني من أزمة سياسيّة، فيضانات وموجات جفاف بسبب ارتفاع درجات الحرارة بمرّتين ونصف بشكل أسرع من باقي العالم. نتج عن ذلك 4 سنوات متتالية من الفيضانات تركت البلاد تحت الماء، بينما الجزء الآخر يعاني من الجفاف. ووصل الأمر اعتماد السكّان على الحياة البرّيّة لتحصل الطعام. ويرزح حوالي 64% من السكّان البالغ عددهم 12 مليونًا تحت وطأة الجوع الشديد! على الجانب الآخر تعاني مدغشقر من الأعاصير والجفاف والفيضانات. الصومال بدورها أيضًا تعاني من الجفاف الّذي أثّر بشكل مباشر على المحاصيل وبالتّالي يواجه 5 ملايين إنسان خطر الجوع. وتعاني كلّ من جمهوريّة تشاد والساحل والممرّ الجافّ في أميركا الوسطى من الحرائق والجفاف والفيضانات، وبعض تلك الدول يتعرّض أعاصير مدمّرة.

لا يقف الأمر عند ذلك، فبحسب صحيفة تايمز أوف إنديا، فإنّ 7 مدن رئيسيّة من الممكن أن تختفي بحلول العام 2030 إن لم يعمل على خطوات للحدّ من التغيّر المناخيّ. على رأس تلك القائمة العاصمة الهولنديّة أمستردام، إذ تتعرّض المدينة شيئًا فشيئًا لارتفاع مياه البحر، وإذا استمرّ الأمر على هذا المنوال، فستكون السدود وأنظمة الدفاع المائيّ في خطر كبير؛ ممّا يعرّض المدينة للغرق. مدينة نيو أورلينز في الولايات المتّحدة تأتي ثانيًا، إذ بحسب التقديرات، فإنّ المدينة ستتعرّض إلى فيضانات كبيرة تهدّد البنية التحتيّة فيها. ثالثًا، مدينة "هو شي من" الفيتناميّة. المدينة المشهورة بدلتا ميكونغ تحت خطر الفيضانات وغرقها تمامًا مع العام 2030.

في الجانب الأوروبّيّ أيضًا تأتي البندقيّة في إيطاليا، إحدى أهمّ المعالم السياحيّة في أوروبا والعالم تحت تهديد الغرق بسبب ظواهر تغيّر المناخ، وتعاني المدينة من الفيضانات والغرق التدريجيّ في مياه البحر. بانكوك، العاصمة التايلنديّة الّتي يسكنها أكثر من 10 ملايين نسمة، تعاني من انخفاض اليابسة بشكل تدريجيّ وارتفاع سطح البحر في نفس الوقت، ممّا يضع المدينة أمام خطر خسارة أجزاء كبيرة منها بحلول العام 2030، الهند لم تكن استثناء أيضًا، مدينة كولكاتا تحت خطر الغرق؛ بسبب عمليّات البناء الكبيرة وانتقال عدد كبير من السكّان إليها، بالإضافة إلى ارتفاع سطح البحر. وأخيرًا، في الشرق الأقصى، تواجه مدينة ناغويا اليابانيّة، والّتي تعدّ من أكبر المراكز الصناعيّة في اليابان، خطر ارتفاع سطح البحر والكثير من الأعاصير الموسميّة؛ فالمدينة الشاطئيّة تقع تحت خطر الفيضانات بين شهر أيّار/مايو وشهر تشرين الأوّل/أكتوبر من كلّ سنة.

ويعدّ ارتفاع سطح البحر من الظواهر الأساسيّة للاحتباس الحراريّ؛ بسبب ارتفاع درجات الحرارة في الكرة الأرضيّة على مدار السنين بدأ الجليد في المتجمّد في القطبين بالذوبان، وذلك ساهم بزيادة كمّيّة المياه السائلة على وجه الكرة الأرضيّة، ويضاف إلى ذلك أنّ زيادة درجات الحرارة يؤدّي ارتفاع درجات حرارة المياه في البحار والمحيطات؛ وبالتالي تمدّد تلك المياه لتغطّي مساحات أكبر وترتفع بشكل مضطرد. وحسب الوكالة الأميركيّة لعلم الفضاء "ناسا" فإنّ سطح البحر ارتفع 105 ملليمترات بزيادة 104.7 ملّيمتر منذ عام 1993.

في العادة، وحتّى وقت ليس بالبعيد، دائمًا ما كان الحديث عن الاحتباس الحراريّ والتغيّر المناخيّ الناتج عنه أمر يتعلّق بالمستقبل، وكأنّ تلك الظواهر ستبدأ في المستقبل، خاصّة مع إشارة التقارير والأبحاث العلميّة إلى الأثر المستقبليّ لهذا التغيّر. إلّا أنّ هذا التغيير مستمرّ وبشكل يوميّ، وكلّما استمرّت، على الأقلّ وبدون زيادة، الانبعاثات الكربونيّة ترتفع حرارة الأرض، وتذوب الثلوج ويرتفع سطح البحر، وتزداد الفيضانات والأعاصير والجفاف! في السنوات الأخيرة بدأ المجتمع العلميّ بالقول إنّ التغيّر المناخيّ قد بدأ بالفعل، ويجب العمل على سياسات واضحة وفاعلة الّتي تعدّ الفرصة الأخيرة قبل فوات الأوان.