«متحدة» يا أمم!

بشار جرار

حفظ أرشيف الأبيض والأسود للنجم المصري الراحل توفيق الدقن كلمة لازمته في أدوار عديدة. أمم.. كان يمدها مدّا، ويختم بها حوارا مفعما بالتعبير عن مشاعر مختلطة من الاستياء والإدانة والأسف والأسى. وقد بلغ سجل الأمم المتحدة الحافل بالفشل وخيبات الأمل -بعد تسع وسبعين دورة عقدتها جمعيتها العامة- بلغ الحال الذي يقال فيه بنبرة وملامح توفيق الدقن: أمم، أمم، متحدة يا أمم؟!

الصحيح أنها لم تكن يوما متحدة. ومما عمّق الشرخ والجرح هو دخول أطراف أخرى إلى المسرح الدولي دونما استئذان وبلاعبين جدد، منهم ما هو أقل من دولة ومنهم ما هو أقوى من حلف. نظم مارقة وتنظيمات وكارتيلات تتاجر في كل شيء على حساب حرمات الأوطان وكرامات الإنسان. واقع مزرٍ إلى حد استحضار صورة أخرى من من الصور السينمائية التي أبدع توفيق الدقن في تشخيصها كشرير عندما كان يتساءل عن قيم الشرف، معربا عن استهجانه بأن بعض مدعيها أبعد ما يكونون عنها. وقس على ذلك الكثير من القيم النبيلة، من إنسانية ووطنية تكاد تعجب من زحمة المزاودين بها وعليها. لو حضرت قيم الإيمان والشرف والعمل الخالص لتطبيق ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة -ومن قبلها عصبة الأمم- لما وصلت الأمم إلى هذه الحال التي نراها اليوم فيما ينذر بفوضى لا مجرد نظام عالمي جديد قد لا ينتظر أحدا لمباركته.

صيحة الضمير التي أطلقها سيدنا من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد نحو عام على اندلاع حرب السابع من اكتوبر، تستنهض همم أصحاب الضمائر من أولي العزم للاستفاقة قبل فوات الأوان. الفوضى والخراب إن حل -لا قدّر الله- لا ينجو منه أحد، إلا من رحم ربي. الروح القتالية التي تحلى بها عبدالله الثاني ومن قبله الحسين وعبدالله الأول طيب الله ثراهما وكتب مقامهما في عليين، تلك الروح القتالية ما خبت يوما في مخاطبة الأحرار والشرفاء في منطقتنا والعالم بأن السلام والتنمية هما جناحا الأمم الحية. والقضية أكبر من نظام هنا وهناك، وتنظيم أو تحالف مع هذا أو ذاك.

القضية قضيتنا إنسانيا ووطنيا. وكما خضنا حروب التحرير والاستقلال والسيادة، ثمة معارك سلام وحق وخير لا بد من تضافر الجهود من أجلها، الأولى فالأولى، والأقرب فالأقرب. علمتنا التجارب -قديمها وحديثها ومعاصرها- علّمتنا أن الاعتماد على الذات هو الأصل وهو الأكثر موثوقية وديمومة.

الرسالة المباشرة، الهاشمية الأردنية الملكية من لدن سيدنا من على المنبر الأممي في هذا المحفل السنوي الهام هو لا وكلا للوطن البديل. تلك الأولوية القصوى التي بلغت من الحسم والح زم الدرجة التي قال فيها جلالة سيدنا وقائدنا المفدى مخاطبا الجميع «دعوني أكون واضحا تماما، الأردن لن يكون وطنا بديلا أبدا»..

تلك الفكرة أو ذلك الوهم تم تكفينه مرتين في أمريكا، الأولى في واشنطن مع انطلاق عملية السلام، والثانية في نيويورك يوم أمس الأول الثلاثاء الرابع والعشرين من أيلول عشرين أربعة وعشرين. في ذلك اليوم وبعد بضع ساعات من خطاب سيدنا، أكدت إيران بلسان رئيسها الجديد مسعود بازشكيان الذي كان من ضمن من تشرفوا بلقاء جلالته على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال إن «إيران تريد السلام مع الجميع ولا تريد حربا مع أحد»، وهو الذي وصف الأمريكيين بأنهم «أخوة»، في أول تراجع عن شعار أطلقه خميني وردده خامنئي المرشد الأعلى السابق والحالي لجمهورية إيران الإسلامية وما يسمى محور المقاومة والممانعة الذي من بين فصائله من يتطاول ويسيء ويزايد باسم «القضية» أو «الدين».

على وقع حربي شمال إسرائيل وجنوبها، كانت الأجواء واضحة أن رئيس إيران الجديد بازشكيان معني باتفاق قد يتكلل بالنجاح في أقل ما تبقى على الانتخابات الأمريكية (ستة أسابيع ساعة إعداد هذه المقالة). بصرف النظر عن تحقق ذلك -انفراج أو انفجار إقليمي- ما يعنينا هو الداخل الأردني بسلسلة من المواقف والمبادرات الفردية والجماعية التي تركز على هدف واحد، وهو دعم وإسناد الموقف الملكي في التصدي لمن في قلوبهم مرض. لا للوطن البديل هي أهم وأخطر اللاءات الملكية الثلاث. رسالة مركزة بليغة تستنهض همم الأمم -خاصة الأشقاء والأصدقاء والجيران- وأولي العزم الصادقين في السعي للأمن والأمان والسلام والازدهار. غير ذلك لا يفهم من أي تقصير أو تشويش إلا ما يشين ويتسوجب الملاحقة القضائية قبل المساءلة السياسية (بجناحيها التشريعي والتنفيذي) . في المراحل الوجودية لا مكان للرماديين ولا للمتلونين خاصة من فيهم اصفرار..