كيف ترحل قبلي يا ولد؟
عامر طهبوب
كان سباقاً في كل شيء، تواقاً إلى المعرفة، مستأنفاً يستأنف على كل مستأنَف، مغامراً، مشاكساً، عاشقاً للحياة، لا يخاف الموت، وكل همه تصحيح الاعوجاج في الحياة، ربما لأنه ولد بقدم معوجه، ورأى أن العلاج الطبيعي لا يجدي نفعاً، وأن الكسر ضرورة للجبر، وكان ذلك الدرس الأول الذي تعلمه في الحياة في عامه الأول يوم عبر إلى غرفة العمليات في المدينة الطبية ليجري عملية جراحية لكسر عظام القدم وتجبيرها على يد الطبيب نادر السعودي.
كان محمد يتطلع في حياته إلى إصلاح الكون، رافضاً للرافضة، وللشرق والغرب، لم يعجبه في هذه الحياة العجب، وكنت أرقبه، وأرقب دماثة خلقه وحسن سلوكه، لم أجد دماثة أرفع منها ولا أسمى، كان دمثاً بحق، وتلك صفة لا يتحلى بها الكثير من البشر، ولا أعرف أحداً عرف محمد ولم يحبه، لم يتخل يوماً عن صديق، ولم يتخل عنه صديق، وأولهم «ربيع» الذي عرفته صديقاً لمحمد قبل عشرين عاماً، وعندما همّ ابن بعلبك الزواج، طلب إلي بوجود والده أن أطلب يد تلك الفتاة النابلسية من يد والدها في أبو ظبي، وكنت في مقدمة جاهته، وكل ما كان يريده ربيع من وراء ذلك، أن يشعر أنني من زوّجه، وقد زوجته بالفعل.
ذلك هو محمد، جلب لي أبناء ليسوا من صلبي وقربهم إلي، وجعلني أشعر خلسة أنه ليس الولد الوحيد، هل كان يخطط للرحيل، هل كان يسعى إلى حماية ظهري من الكسر لحظة الفراق، لا أدري، لكن أصدقاء محمد باتوا أولادي، أولهم ربيع، ولكن حسين، وبرهان، والعُمَري، وخالد ابن عمه عمران الذي كان أقرب إليه من حبل الوريد، وأكثر من انتحب على فقدانه، وهو آخر من جالسه في ليلته الأخيرة
تلك هي الليلة الأخيرة، حمّلَت والدته شقيقها «بكر» وجبة من الطعام لينقلها من الشارقة إلى محمد في مسكنه في إمارة أم القيوين، وكانت تلك الوجبة الأخيرة، تناولها الولد من يد أمه في ليلته الأخيرة قبل ترابه الأخير، يا إلهي، لماذا أرسلت الأم الطعام إلى ولدها في تلك الليلة على وجه الخصوص، لماذا لم ترسل له طعاماً في الليلة السابقة، أو التي سبقتها، لماذا في تلك الليلة؛ يا إلهي.
ليس هذا هو السؤال الوحيد، لماذا زارتني كوابيس مرعبة في تلك الليلة، ولماذا وضعت هاتفي «على الصامت» على غير عادتي، هل كان قلبي يشعر بأن كارثة ستحدث، هل كنت أرفض أن أتلقى تلك الاتصالات والرسائل الهاتفية التي ستنقل لي فاجعة عمري، وصحوت من نومي عند الثانية عشرة ظهراً، لم ألتفت لهاتفي، وسارعت إلى إعداد قهوتي، وجلست أحتسي فنجان القهوة، شربت ماء، أشعلت سيجارة، أمسكت هاتفي، عشرات الاتصالات، وعشرات الرسائل النصية عبر «واتساب»، استعرضت أسماء المتصلين، فارتعش جسدي؛ ابنتي فرح، زوجها علي، ابنتي هند، ربيع، حسين، برهان، خالد، العمري؛ يا الله، كل هذه الأسماء تقود إلى فاجعة محمدية، إنه محمد، اتصلت بزوج ابنتي، قال لي أنه يقود السيارة في اتجاه «أم محمد» لنقلها إلى مستشفى الشيخ خليفة في إمارة أم القيوين، وأن حضوري ضروري وعاجل لأن محمد تعرض إلى حادث سير دخل إثره إلى العناية المركزة.
لم يكن بإمكاني قيادة سيارتي، كنت أرتجف، وأرتعش، طلبت سيارة أجرة، وجلست في المقعد الخلفي فاقداً للإحساس في كل شيء، أبتهل إلى الله أن يلطف فيما قدّر، وأسأل السائق بين دقيقة وأخرى، كم بقي من الكيلو مترات، وكم الوقت المقدر للوصول، أعارك الدقائق والثواني، ووقفت سيارة الأجرة أمام قسم الطوارئ، ترجلت، تفحصت وجوه الواقفين، ارتعبت، خطوت خطوات قليلة، اقترب مني شاب، عانقني وقال: رحمة الله على محمد.
يا الله ما أصعب تلك اللحظة غير المسبوقة في حياتي، يا الله ما أقساها، ووجدت نفسي أردد وأنا أجهش بالبكاء عشرات المرات: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، كان وجعاً، لم أعرف وجعاً في عمري كله كما عرفت ذلك الوجع، وليس كل وجعٍ وجع، هذا هو الوجع، وجع يشبه في سبره الانهدام الإفريقي العميق، هل سأشيع ولدي، هل يعني أنه لن يشيعني، سبقني هذا الفتى في كل شيء، في الذكاء، والمعرفة، والفطنة، والسخرية، والظرافة، والفكاهة، والكرم، وحب الحياة، هل سبقني أيضاً إلى الموت، هل هو سبّاق إلى هذا الحد، أم أنه يلعب معي لعبة اختفاء بقصد التجربة.
وجاءت لحظة الغُسل، لم أكن أجرؤ حتى تلك اللحظة على إلقاء نظرة الوداع الأخير على جسده الطاهر، لا أقصد نظرة الوداع، فأنا لا أجيد الوداع، أقصد العناق، وأنا سيد العناق، وسيد القُبَل، وقررت أن أشارك ولأول مرة في حياتي في تغسيل جسد ولدي، دعوت الله من صميم قلبي أن يعينني على فعل ما سأفعل، وقد أعانني، لم يخذلني ربي، وقبلت قدميّ محمد، لكني زدت قبلة على قدمه المعوجّة، وقبلت رأسه، وعانقت جسده، وهمست في أذنيه بعض مفردات الرضا، وكانت روحه حاضرة.
كنت رابط الجأش في بيت العزاء، وأقوي من عزم أمه المكلومة، وابنتي فرح وهند، وأعود في كل ليلة إلى بيتي لأجهش في البكاء طويلاً، وأتذكر الفتى، يوم حصل على الإقامة الذهبية خلال 48 ساعة من لحظة تقديم الطلب، أخذ بطاقتي، واستصدر إقامة ذهبية استناداً إلى إقامتي التي تتيح لي أن يستفيد أعضاء أسرتي من «الذهب»، وبعد طبع الإقامة، اتصل بي وقال: هل بالإمكان أن أزورك لدقائق؟ قلت: ما وراء الزيارة؟ قال: دقائق لأقبل رأسك، لقد حصلت على الإقامة الذهبية. تلك الإقامة كانت تعني لمحمد شيئاً كبيراً، عمل في شركات عديدة، وكان يستقيل دوماً بعد أشهر قليلة، والسبب واحد ووحيد، محمد صاحب روح حرة، ألم أقل لكم أنه مستأنِف، لكن الفتى شعر مرة واحدة بفرح غامر، وجاءني على غير موعد يهلل ويعبر عن سعادته، ماذا حدث، سألته، قال: «أسكت، مش أنا تفنّشت». قلت: هل هذا خبر مفرح؟ قال: نعم، هل تريد أن تخلو سيرتي الذاتية من حالة «تفنيش».
ها أنا أفلحت في منح ولدي إقامة طويلة الأمد مدتها عشر سنوات قابلة للتجديد حتى بعد وفاتي، لكنه رحل وإقامته في الإمارات العربية المتحدة صالحة لمدة تسع سنوات قادمة، لم يستفد من الإقامة الطويلة في دبي أكثر من سنة، وشاء الله أن يلغي صلاحيتها، وأن يقضي محمد البقية الباقية منها في رحمة ربه، وأنا لا أملك المشيئة لتحقيق إقامة لك يا محمد في الحياة، وعند رحيلك أدركت أن لا إقامة ذهبية إلا عند الله.
وأما أنا، فلن أتركك، سأصلي صلاة الجمعة على الدوام في جامع الشهداء بقربك، وأخرج لزيارتك كما خرجت أنت من ذلك المسجد إلى جوار ربك، سأزورك كل جمعة، وأجلب لك ساندويتشة «زينغر»، وأردد على مسامعك ما كنت تقوله لي: «يلّا، خلينا نزنغِر مع بعض»، وتلك هي الحياة يا محمد، «مزَنغرِة» !