أسعار صرف الممنوع من الصرف!
بشار جرار
أظنه حال جميع المغتربين لأي سبب كان، وكذلك حال المهاجرين كلهم حيثما وجودوا. بصرف النظر عن أسباب العيش في الغربة أو المهجر، كلما دارت الأيام لتلتقي على تقاطع الدورات الانتخابية في الوطن الأم والبلد الثاني، زادت أوجه المقاربة -والمقارنة أحيانا- لينظر الناخب مليا في أعماق أعماق وجدانه وعقله من يمنح صوته الانتخابي؟ الصوت في هذا الزمن، لم يعد مجرد أمانة أو موقف. هو بكل ما تعنيه الكلمة صوتا وجوديا، فالقضايا المطروحة ليست مفصلية في الطرق أو المسارات فقط، بل فيصليّة بين الحق والباطل والخير والشر في كثير من القضايا الإنسانية والوطنية، قبل أن تكون سياسية أو حزبية.
ليس من المناسب الخوض في هذا المقام، خاصة في هذا التوقيت -سواء حسب التوقيت المحلي في عمّان أو واشنطن- ليس من اللائق الخوض أو حتى الإشارة من بعيد إلى ما يجوز أو لا يجوز، أو ما هو أفضل فيما يخص الأحزاب والمرشحين. حديثي مكرس للناخبين فقط. هم الأصل وهم الأساس. هم الغاية والوسيلة إن أردنا أداء واجب التصويت قبل ممارسة حق الاقتراع. فالخطيئة الكبرى هي المقاطعة، ولا تقل عنها ابتعادا عن الحكمة، الامتناع عن التصويت زعما بأن ما هو مطروح لا يرقى إلى مستوى الطموح. هذا ليس أوان ما يطلبه الجمهور أو ما تتمناه الجماهير!.
حتى -لا قدّر الله- لو كانت الخيارات الانتخابية ليست في المستوى المنشود، فإن المشاركة في الاقتراع هو واجب قبل أن يكون حقا إزاء الوطن.
البلد والوطن والدولة، الأسرة والعشيرة والديرة أكبر من الجميع، من الناخبين والمرشحين، مع حفظ المقام والمحبة والاحترام للجميع.
لا عذر لمعطّل ولا لمرجف، وسائل الاقتراع الحديثة توفر للناخب إمكانية الاقتراع ولو بالإشارة أو النظرة، وما هي إلا بضع سنين على إيلون ماسك -عملاق التقنيات الفضائية والاتصالية- حتى يتمكن من توفير الاقتراع بالفكرة، بمعنى قدرة الذكاء الاصطناعي يوما ما على وضع علامة صح على المرشح أو القائمة الحزبية التي يفكر فيها الناخب حتى وإن كان -لا قدّر الله- غير قادر جسمانيا على القيام بذلك.
أخطّ هذه السطور غداة اختتام أعمال مؤتمر الحزب الديموقراطي في شيكاغو بولاية إلينوي، بعد شهر من الانتهاء من أعمال نظيره الحزب الجمهوري في ملاووكي بولاية ويسكنسون الأمريكية. وعلى غير العادة، وصلتني -كما هو حال ربما كثيرين من الأردنيين والعرب والشرق أوسطيين الأمريكيين- تمنيات بلغت حد الرجاء بل وحتى الأوامر -بالعشم- بأن إياك وأن تمنح ثقتك هذا أو ذاك، فالانتخابات ليست رئاسية فقط وهناك مناصب أخرى على لوائح الاقتراع منها عضويّة عدد من مقاعد مجلسي الشيوخ والنواب ومنها التصويت على قضايا محلية صرفة، لكن لها أبعادا ذات أثر عالمي وأحيانا شرق أوسطي.
نصيحتي أو لأقل أملي ورجائي، الحذر من تلك الوعود الممنوعة من الصرف! في الثقافة الأمريكية يقول الواثق من وعده بأن السامع بإمكانه أخذ كلمته وصرفها من البنك! أي أنها -الكلمة (الوعد)- مستند مضمون الدفع لا شيكا قد يكون «على بياض»، ويصير مُرتَجَعا بعيد إعلان النتائج وحفلات التهاني وفق مقولة «بكم تزهو المناصب»، فيما على المتضررين اللجوء إلى القضاء! ليكتشف البعض أن مقولة «القانون لا يحمي المغفلين» للأسف مقولة عالمية، أكبر النصابين المحترفين بها، هم أحيانا أبعد الناس عن الشبهات!.
من الوعود غير القابلة للصر ف ما خلت تفاصيله في البرامج الانتخابية والدعاية السياسية، مهما بلغت فصاحتها وزخارفها بالرسم الالكتروني الذي صار فرجة بعد زمن الذكاء الاصطناعي!.
كثير الوعد وكبير الوعود لا يختلف وعيده عن وعوده. كلاهما لا ينطبق عليه لا كلام ولا لحن «عودك رنّان» كما في رائعة فيروز. لا ينخدعن حكيم بتأرجح أسعار الصرف في البورصات الانتخابية حتى وإن كانت الوعود الانتخابية ومنشوراتها ويافطاتها و»شواخصها» الشاخصة فوق أغصان الشجر وأضواء الإشارات وشواخص السلامة المرورية، مزدحمة -عامدة متعمدة- بالأرقام والنسب المئوية مع «إنفو غرافيكس» زخرفة وتضليلا، لا شرحا ولا تفصيلا. فالحقيقة ليست في مكسب عابر أو مغنم مؤقت -ولو كان كبيرا- ما دامت الأمور عند ساعة الصرف الموعودة أو المأمولة، غير قابلة للصرف.
فيما يلي حفنة من أمثلة رائجة: مجانية كل شيء أو رخص كل الأسعار لا تعني عمليا إلا الاقتراض أو الضرائب. تلك لا تستقيم مثلا مع الحديث عن استقلالية الإرادة والمسك بزمام المبادرة في أي مشروع كان سياسيا أم اقتصاديا.
في الشأن الاجتماعي -وهو الأكثر خطورة- من يزعم حبه وحرصه على أبناء أكثر من والديهم، سارق للأبوة والأمومة أو مزاحم لها أو مزاود عليها، وهذا قطعا ليس من العاملين لا لأجل الله ولا في سبيل الوطن.
أما وطنيا، فمن لا يقول ويعمل بمبدأ بلادي أولا ودائما، لا خير في ديموقراطيته ولا صدق في خطابه، أيا كانت مفرداته.
صوتنا ليس مبحوحا، صوتنا صمته بواح ونطقه إفصاح، فيه فصل الخطاب -بعون الله- بين ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وما هو دون ذلك..