اليسار الاردني الديمقراطي الحائر بين الماضي والحاضر
د محمد العزة
الحديث أو الكتابة عن اليسار السياسي الأردني بشكل عام كأحد عناوين القوى والحركات السياسية أو الخوض في ارشيف تاريخ تأسيسه ونشاطه وإنجازاته وجوهر فكره وفلسفته ونظرياته ومعتقداته ومساحة جغرافيته وتأثيره في القدرة على استقطاب جماهيره وضمان تبعيتها واعتناق مفاهيمها وتعلم ودراسة مفرداته الثورية النخبوية المعقدة ، لعله من من اكثر المواضيع أو الملفات الذي يحتاج الاستفاضة والاسهاب فيه ، إذ أن الحديث عن اليسار السياسي وحركاته وأهدافه وتشعباته يعني انك تتكلم عن مذهب سياسي شكل حالة أممية قادت العالم بأسره إلى قطبية قسمته إلى معسكرات وقواعد لتحالفات ومناطق نفوذ وصناعة جبهات متقدمة خاض فيها مؤيدوه حروبا بالوكالة والنيابة عن اقطابها ، وكان ادواتها نظريات فلسفية و اقتصادية وأنماط سلوكية اجتماعية وخطابات جماهيرية صارت علامات بارزة و لافتات بأسهم دالة إلى ذلك الاتجاه ،ولم يكن الاردن بعيدا عنها بل في قلبها ، والحق يقال عند الحديث عنه فأنك تتكلم عن حالة أسهمت في الثقافة والفنون والصحافة والحريات ومجالاتها والعدالة وسيادتها ووقضايا العمال الكادحين والفقراء والطبقات المجتمعية وتأسيس النقابات و التعاونيات وهي عناوين استهوت الشارع بمختلف مكوناته و وجدوا ضالتهم في التخلص من نهج القوى السياسية الإمبريالية الرأسمالية ولعل هذا الأمر جعل هناك أغلبية تميل إلى ذلك اليسار وفكره بعض تجارب مريرة من الحكم التركي والاستعمار الغربي الذي أمعن التقسيم والتنكيل واقتراف جريمة القرن في العصر الحديث بل هي ابشعها بزراعة جسم غريب صهيوني فاشي ومستعمرة استيطانية بفكر توسعي في قلب الجسد العربي بأحتلال والاستيلاء على الوطن الفلسطيني وتهجير شعبه ليبدأ تاريخ صراع هذه الأمة ونكبتها الذي كانت التربة الخصبة لنمو وظهور اليسار العربي وكان اليسار الاردني والفلسطيني من اوائل طلائعه اللذان شكلا روحا وجسدا واحدا وتشاركا رحلة نضال وكفاح ضد الاستعمار وقواه الإمبريالية وخططه بل في فترة ما شكلوا مجلس الوحدة النيابي البرلماني وأركان الحكومة الأردنية ، فكانت فترة الخمسينات ذروة اليسار الاردني بطبعته وصبغته الايدلوجية ومرجعيتها السوفيتية الشيوعية في مواجهة ذلك المعسكر الغربي وما تلاها من انشقاقات و ولادات للحركة القومية وأحزابها وتياراتها الناصرية والبعثية ومنظمات العمل النضالي الفلسطينية التي نالها من التفرع والتشظي ما نالها مما يعطينا انطباعا عن حالة اليسار الاردني ومواضيعه أنه كان قطبا سياسيا رئيسيا وطني الملامح والجسد ، لكنه لم يستطع أن يطوع ما اعتنقه من مذهب سياسي ويترجمه إلى برنامج يرتبط بالمكان والزمان قادر على تقديم خدمة الملفات الداخلية والخارجية و يلائم طبيعة الدولة الأردنية الملكية وعلاقاتها السياسية بل اختار القالب الثوري المعارض المثالي الملتزم بكل تجليات ومواصفات اليسار الأممي ، ولم يعر الإنتباه أن لكل أمة ودولة بيئتها ونظامها وموروثها وثقافتها التي تمتلك امكانيات متباينة في تقبل كل فكر أو نهج جديد و خاصة أنه قد يتطرق إلى مفاهيم قد يساء فهمها في حينها ومرحلتها و و مستوى وعيها السياسي خاصة تجاه الدين عند ذكر العلمانية ومفاهيمها ومدنية الدولة ودمقرطة القرارات وأدواتها .
حصل الصدام وعقدة الاغتراب مابين اليسار الاردني ودولته وخاصة بعد انحياز واصطفاف تياراته القومية مع عمقها القطري في مواقفها منها ماهو محق لأنه كان ضد الهيمنة البريطانية وانتصارا للقضية الفلسطينية وانتصر الملك الحسين بن طلال رحمه الله لها وكان تعريب الجيش العربي ، واخر ما كان مخالف للدولة وانحيازا لسياسات تلك المرجعيات وشكلت خروجا وخطرا على ثوابت السلطة البنيوية الملكية الوطنية الأردنية .
خلاصة الماضي كان هناك يسارا أردنيا سياسيا غير برامجي يعارض حكوميا وان لم يجد من يعارضه سيصنعه و قد يكون هذا لتداعيات القضية الفلسطينية وقتها وشعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة .
تسعينات القرن العشرين الماضي ومع عودة الحياة النيابية عاد اليسار لكن منهكا مشتتا مفتتا مفككا بفعل فاعل من داخل بيته منهمكا بصراعاته الداخلية وتزاحم قياداته في البقاء على سلطته وطمعا بأن يظل تحت وصايتهم والوصول لمٱربهم تاركين خلفهم كوادر كادحة عاملة حالمة برجوع زمنه والإبقاء على آخرين أما مؤمنين بالفكرة كواجهة في المواجهة أو تابعين منتفعين وصار تيارا تنظيريا يحظى باحترام المثقفين والسياسيين تقديرا لتاريخه وشخصياته في الماضي أما في حاضرنا اليوم استيقظ اليسار محاولا إعادة بناء نفسه لكن دون الاستفادة من تجاربه السابقة والاقتناع بضرورة اختراع معادلة يكون حلها إجابة واستجابة لمتغيرات سياسية واقعية وفق معطيات الجيوبوليتك التي رسمها القطب الواحد ، فوقف وتوقف حائرا متجمدا لا يملك إلا العودة إلى تكتيكات البناء على أشلاء صفحات الماضي و ادواته ومواقفه التي اتخذها قواعد لاتقبل التغير أو التكيف والتعرف على عناصر التطور والديناميكية السياسية التي فرضتها عوامل الواقع والظرف الموضوعي لموازين القوى وانحصار القطبية من بعد تعددية قطبية كانت تشكل حالة التوازن العالمي وتشكل تحالفاته واحلافه.
لكن بدلا من الوصول إلى حالة القناعة بضرورة التحور والتطور وليس المطلوب التحول أو التراجع عن المباديء ، رفعت الشعارات والعناوين مذيلة بوصف أو مفردة الديمقراطية دون الاعداد والاستعداد لممارستها بشكلها وتفاصيلها وأصولها بل اختاروا أن يتخذوا مظهرا جديدا دون الحاجة إلى مراجعة المرحلة والحالة وأختاروا أن يظلوا تحت ظلال العنوان و وطأة الممارسة من ارشيف الماضي الذي لا يجيدوا غيرها واستمرار صراع الأقطاب وتجيش وتحشيد الادوات و غيرها أو تهذيب وتشذيب أغصان أشجارها وفروعها بما يتناسب وحجم رموز قياداتها وخدمة طموحاتهم ونزعة السلطة الديكتاتورية لديهم دون استثناء في مناقضة واضحة لمتطلبات التحديث السياسي ومساراته والرؤية الملكية لها التي هي بمثابة ثقة وامل وفرصة لنجاح بناء يسار ديمقراطي جديد يكون جزءا فاعلا من مستقبل الاردن السياسي الحكومي الحزبي بأدوات المستقبل ، ولكنها ادوات وممارسات الماضي لعلها من اهم الاسباب التي ادت لما نشهده من الانقلابات والانشقاقات والانقسامات داخل الأحزاب اليسارية و اكل نفسها .
ختاما كما هو دائما أن من لايقبل التكيف والتغير فمصيره الاختفاء عن المشهد الذي لا يقبل الفراغ وعليه فإن على قيادات اليسار وخاصة وسط اليسار الديمقراطي بإعادة النظر في خططه وعناصر البناء للمشروع الحزبي الاردني وتغطية الساحة وتوسيع المساحة حتى وأن تطلب الأمر التضحية من جيل السبعينات الماضي بدلا من التنحية وإفساح الطريق لقيادات الصف الثاني الشباب الحاضر ليكملوا مسيرة تيار عريض لم يغب يوما عن ساحة وطنه الاردني متسلحين بأدوات المستقبل لأجل مستقبل الاردن الديمقراطي الاقوى القادر على مواجهة التحديات وتجاوز الصعوبات ومواكبة التحديثات معاهدا وطنه الاردني بأن يظل وسيظل عزيزا كريما آمنا مطمئنا مستقرا.