شيكاغو خالتي أم ربحي!
بشار جرار
أخطّ هذه السطور على وقع بدء أعمال مؤتمر الحزب الديموقراطي في شيكاغو التي زرتها مرتين ترانزيت عبر مطار أوهير الدولي على متن طائرة الملكية الأردنية، التي ما زلنا للأمانة نناديها «عالية» على أمل أن نحظى قريبا برحلة مباشرة بين عمّان وواشنطن إلى جانب «يونايتد» الأمريكية.
منذ ثلاثة أيام، بدأت ما تعرف بالتغطية الاستباقية، كل حسب توجهاته الحزبية داخليا وأهوائه السياسية خارجيا. بحكم عملي، من واجبي -الذي من حسن الحظ أحبه واعتبره متعة وخدمة ورسالة أكثر من كونه باب رزق ومهنة- من واجبي متابعة هذا التنوع الذي بلغ منذ سنوات حد التناقض والتخبّط والتضليل في كيفية تعامل البعض، مع بعض الأحداث والمناسبات الأمريكية التي ينبغي أن تقرأ دائما من منظور أمريكي لا بل وحتى منظور محلي يراعي خصوصية بعض الولايات والمقاطعات في بعض الأحيان، قبل التسرع في استصدار الأحكام أو استنباطها، أو بالأحرى إسقاطها على قناعات مسبقة، غالبا ما تكون ايدولوجية -دينيا أو عرقيا أو سياسيا.
للأسف -ومن الناحية المهنية الصرفة- تلعب الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي دورا يسهل فيه التلاعب في أبعاد الصورة كلها، لا بل والمشهد بأسره. من يتابع عن بعد، من وراء البحار والمحيطات، لا يرى البث المحلي للقنوات الكبرى المعروفة بتغطيتها الوطنية في الخمسين ولاية. فلكل ولاية ومقاطعة بثها الخاص ودعاياتها الخاصة أيضا.
حتى القنوات الناطقة بالعربية، أمريكية وغير أمريكية، ذات المقرات الداخلية أو الخارجية، لا تنقل الصورة كاملة أو دقيقة إلا ما ندر.. ليست دائما متعمدة، بل غير مدركة لما هو موجود أصلا، أو غير قادرة على الاطلاع عليه، ومن ثم الاستفادة منه وتضمينه في تغطيتها، لذلك المراقب الجالس في إحدى العواصم العربية أو الأوروبية أو في روسيا والصين المتهمتين إلى جانب إيران بالتدخل في الانتخابات الأمريكية من خلال التأثير على السرديات المتداولة في الإعلام التقليدي والجديد يعني إعلام «الدقة القديمة» وإعلام «الثلاث دقات» وأحيانا «على دقة ونص»!.
يفترض أن تلعب وسائل الاتصال الجماهيري أو التواصل الاجتماعي دور الجهات المعنية المختصة في فهم تفاصيل التفاصيل في أهم حدث على مستوى العالم بأسره، خاصة في هذه الانتخابات التي قد تعني الفارق بين حرب عالمية ثالثة أو السلام الحقيقي في الشرق الأوسط أو النقيض من الأمرين.
لن أدخل اليوم في تفاصيل الحدث، لكن من المهم التوقف مليا عند تفاصيل المشاهد السابقة والمرافقة للمؤتمر الديموقراطي في شيكاغو بولاية إلينوي، تماما كما كان عليه الحال في أحداث ذات تماس شرق أوسطي كمؤتمر الحزب الجمهوري في ميلووكي بولاية ويسكنسن الشهر الماضي، وكلتاهما -إلينوي و ويسكنسن (المتأرجحة) من الولايات ذات الثقل الانتخابي لثلاث فئات تزداد قوتها الانتخابية وليس السياسية بالضرورة وهي: أصوات الناخبين المسلمين والمسيحيين الشرق أوسطيين والعرب، الفلسطينيين واللبنانيين على نحو خاص. تلك الأصوات ليست منظمة بأي شكل من الأشكال حتى وإن صوتت باتجاه واحد في بعض المواسم أو قاطعت كما هو متوقع من قبل الرافضين لمرشحي الحزبين دونالد ترامب وكمالا هاريس.
من التفاصيل الجديرة بالتوقف عندها هي تلك الأعلام المرفوعة لم يغب العلم الأمريكي فقط ولم يكن الحضور طاغيا للأعلام الفلسطينية فقط بل أعلام أخرى ملونة لليسار المنحل المختل في تناقض صارخ لا يمكن تفاديه بالمونتاج أو بتغيير زاوية الكاميرا أثناء التغطية التسجيلية أو المباشرة أو تلك الصور الثابتة والمتحركة التي يتم انتقاؤها بعناية عند مرافقة حديث المذيع أو المضيف أو المحاورين من معلقين ومحللين، حتى وإن سموهم مستقلين، أو بأسماء وألقاب لا تنطلي على أحد يعرف مجريات الأمور تصل إلى حد انتحال الشخصية أو أولئك الذي يصدق فيهم القول «مطعمي حاله جوز فاضي»!.
رحم الله «خالتي أم ربحي» -اخترت اسما بديلا لها حفاظا على الخصوصية- كانت جارة كبيرة في القدر والسن. كانت قبل أكثر من نصف قرن تحرص على زيارة أبنائها وأحفادها في شيكاغو عاما بعد عام، حيث يأتون هم لزيارتها لإدامة التواصل مع الوطن الأم. ذات مرة، تعثرت في مطار أوهير. لم ينتبه إليها المارة المهرولين إلى بوابة المغادرة، فما كان منها إلا أن نادت بصوت عال: «أبيش بي» ابن عرب يساعدني؟ ما كادت تنادي حتى لبى النداء فتى اتضح بعد تفرسها في ملامح وجهه أنه نشميّ من حُرّاس «الملكية»، «عالية» في تلك الأيام.
الخلاصة، من المهم متابعة تفاصيل التفاصيل في أي انتخابات، لفهم كيف يفكّر الناخب لا المرشح فقط، صار رئيسا أو عضوا في مجلسي الشيوخ أو النواب. هذا سر من أسرار ما يذكرني دائما بالفيلم الأمريكي الرائع «لُسْتْ إنْ ترانسليشِن»، أي «ما ضاع في الترجمة»!.