السياحة الجائرة المفرطة
د. ماجد الخواجا
يبدو أن هناك موجة عارمة من السخط لما ينتج عن توافد السيّاح بالملايين على دول مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا وفرنسا وتركيا، ومصر والسعودية والمغرب، حيث تشير الإحصائيات والمؤشرات العالمية إلى أن عديد السيّاح الدوليين وصل إلى 1.3 مليار للعام 2023، فيما بلغت عائدات السياحة الدولية للعام 2023 ما يقارب 1.4 ترليون دولار، وتشير التقديرات لمساهمة السياحة في الاقتصاد العالمي إلى وصولها لـ3.3 تريليونات دولار عام 2023، أو 3% من الناتج الإجمالي العالمي حسبما أوردت منظمة السياحة العالمية. وبدأت ملامح الامتعاض من الإفراط السياحي الجائر في مدن مثل البندقية وبرشلونة وجبل فوجي اليابان وشلالات نياغارا، وعديد من الجزر اليونانية، لا بل تعدت ذلك إلى المواقع الدينية ذات الرمزية الخاصة بها نتيجة عدم مقدرتها على استيعاب إعداد الزائرين وتقديم الخدمات لهم والحفاظ على جودة الحياة لأهل تلك المواقع.
تأتي فرنسا في المرتبة الأولى بعديد السائحين الذي وصل إلى 100 مليون سائح للعام 2023، تليها إسبانيا 85 مليونا، الولايات المتحدة 67 مليونا، إيطاليا 57 مليونا، تركيا 55 مليونا، المكسيك 42 مليونا، بريطانيا 37 مليونا، ألمانيا 35 مليونا، اليونان 33 مليونا، النمسا في المرتبة العاشرة 31 مليون سائح. وهذه حسب أرقام World Tourism Barometer. بالرغم من هوس مواصلة الحديث عن إيجابيات السياحة وعوائدها السخية المباشرة المؤثرة في أوردة اقتصادات الدول، لا بل هناك من يصنفها على أنها « النفط الأبيض المكرر» فهي مورد لا ينضب وعائد لا ينتهي وصناعة متجددة بأثمانٍ تزداد كل سنةٍ عن سابقاتها. اليونسكو تقترح إدراج البندقية وبودابست على قائمة التراث العالمي المهدد وربما تتبعها برشلونة وعديد من الجزر اليونانية والتركية وغيرها. يمكن تفسير ظاهرة «السياحة المفرطة» الآخذة في الانتشار نتيجة العوامل الآتية: ·ازدياد المقدرة الشرائية في بعض البلدان، والذي أدى لارتفاع الطلب على السفر والسياحة.
·زيادة الاعتماد على وسائل نقل زهيدة مثل الطيران الاقتصادي ذات التكلفة المنخفضة، مما سهّل على السياح التنقل بين مختلف الوجهات.
·انتشار منصات الحجز الإلكترونية التي سهّلت عملية حجز تذاكر السفر والإقامة، وشجّعت المزيد من الأشخاص على السفر. ·التسويق الفعال يعد سببا رئيسيا في زيادة شهرة العديد من الوجهات السياحية وجذب المزيد من السائحين لزيارتها . ·سهولة التعرّف على المواقع السياحية مع انتشار الإنترنت.
·دور المؤثرين الإلكترونيين الذين يدعون بالجوالين المروجين للسياحة.
·إمكانية وسهولة إجراء المقارنات والاختيار بين البدائل مع توافر الآراء والتعليقات للزائرين لتلك المواقع والخدمات السياحية فيها.
نادراً ما يتم الحديث عن سلبيات السياحة وما يترتب عنها من آثار تكاد تكون مدمرة جارفة للبيئة والطبيعة، ومن تلك السلبيات يمكن أن نورد ما يأتي:
1-تعتبر السياحة المفرطة نعمة على الحكومات ونقمة على السكان المحليين. فهي تمثّل التأثير السلبي للسياحة على وجهة ما أو أجزاء منها بشكل مفرط على جودة حياة المواطنين.
2-أصبح تدفق السائحين إلى بعض المدن مكثفا بشكل مضر، مما أدى إلى تفاقم الآثار السلبية للسياحة الكثيفة على مختلف جوانب الحياة، بدءا من الازدحام الشديد في الشوارع والمعالم السياحية، مما يُعيق حركة المرور ويُصعب التنقل. وليس ذلك فحسب، بل تؤدي أيضا إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل ملحوظ.
3- ازدياد الطلب على المساكن، خاصة خلال فترات الذروة، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الإيجارات بشكل كبير، وتُسبب كثرة الزائرين ضغطا هائلا على البيئة، حيث تتراكم النفايات ويزداد التلوث، وتخيّم الضوضاء على المدن.
4-الضغط على مرافق البنية التحتية، التي تُصبح غير قادرة على استيعاب هذا الكم الهائل من الزوار، ويتغير نمط الحياة اليومي للسكان المحليين رغما عنهم لتجنب تلك الأماكن السياحية المزدحمة. وتعد جزر الكناري الإسبانية مثالا صارخا على مخاطر السياحة المفرطة، فمع ازدياد عدد الزائرين بشكل هائل، واجهت الجزر أزمة نقص في مياه الشرب في عام 2023، حين زار جزر الكناري ما يقرب من 14 مليون سائح، أي ما يعادل 7 أضعاف عدد السكان. وفي فينسيا، المدينة العائمة الشهيرة في إيطاليا، يُعاني السكان المحليون من الزحام الشديد بسبب تدفق 20 مليون زائر سنويا على هذه المدينة الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 50 ألف نسمة فقط. 5-تحول المدن لخدمة السائحين: لم تقتصر تأثيرات السياحة المفرطة على تلك المظاهر، بل ظهر ما يُعرف بـ «Tourist fication» ويُقصد بهذا المصطلح تغيير هوية المكان أو المدينة بشكل جذري ليتناسب مع احتياجات السائحين ورغباتهم، وذلك رغبة في جلب المزيد من السياح وتحقيق المزيد من الأرباح. ويُترجم ذلك على أرض الواقع من خلال تحول المحال التجارية والأسواق المحلية إلى بيع الهدايا التذكارية والمنتجات والمطاعم والألعاب والاستراحات التي تُلبي أذواق واحتياجات السائحين، بدلا من تلبية احتياجات السكان المحليين، ويُؤدي إلى تآكل ثقافة المجتمع المحلي وفقدان هويته، بجانب ارتفاع تكاليف المعيشة على السكان المحليين. وللحديث صلة.