العقرب الأقرب
بشار جرار
مر الثاني من آب بسلام والحمد لله. لست أدري إن كان الانتظار سيدوم عندما ترى هذه السطور النور. فحتى صباح السبت حسب التوقيت المحلي في واشنطن، مرت ذكرى اجتياح القوات العراقية الحدود واحتلالها دولة الكويت الشقيقة، مرت دون تكرار الخطيئة، ولا أقول الخطأ المركّب الذي تسبب بهذه الكارثة التي لا زلنا نتجرع العلقم جميعنا في المنطقة وربما العالم بأسره، بعد مرور أربعة وثلاثين عاما على قرار اتخذه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين -والذي قيل فيما قيل- إنه تأسس على سوء فهم لباقة وحنكة السفيرة الأمريكية في بغداد ابريل غلاسبي التي عقّبت على تساؤل صدام عبر مترجمه الخاص بأن واشنطن لا تتدخل في الخلافات الثنائية بين الجارين الشقيقين وتدعم حلها بالحوار والدبلوماسية.
تبيّن لي خطورة الترجمة في الشؤون السياسية والعسكرية والأمنية -في هذا الملف تحديدا- بعدها خلال المقابلة الحصرية التي أجراها المراسل رقم واحد في العالم حينها بيتر آرنت المراسل الميداني الجوال الذي أبدع في تغطيته عبر شبكة الأخبار بالكوابل «سي إن إن» عندما طرح سؤالا بخصوص مبادرة صدام في الثاني عشر من آب 1990. دعا يومها صدام إلى إنهاء جميع الاحتلالات في الشرق الأوسط للانسحاب من الكويت وهو ليس فقط عقدة في المنشار، بل شرط تعجيزي إن كان ليتحقق نظريا، فإنه قطعا لن يكون بالتزامن ولا حتى بالتلاحق، وإلا اعتبر مكافأة على احتلال دولة كبرى لدولة صغرى.
من كثرة إعادة وإعادة الإعادة لما شهده جيل واحد في الشرق الأوسط، يكاد المشاهد يتابع رائعة دينزل واشنطن النجم الأمريكي فيلم «دي جا فو» وكأنه فيلم كوميديا واقعية، لا إثارة وخيال! تتذرع حكومة بنيامين نتانياهو الأكثر يمينية وتطرفا في تاريخ إسرائيل بعدم الاستعداد لطرح «مسار» يفضي إلى «رؤية الدولتين»، حتى لا تكافأ حماس على السابع من أكتوبر. تماما كما سأل بيتر صدام عن المساواة بين القضايا من المنظور الدولي قام المترجم باستخدام الكلمة الصحيحة «إكويت» بمعنى المساواة مع، فما كان من صدام إلا أن يقاطع مترجمه بالقول «أنا ما قلت الكويت»! عاش المترجم -ولا أعرف أخباره لكني أظنه قد هاجر إلى «الغرب»- عاش لحظات رعب خلال توضيح الإجابة لصدام، فيما ضبط بيتر تعابير وجهه حتى لا يفهم منها أي «قلة احترام» للقائد المهيب الركن، رحمه الله.
العبرة إن كثيرا من سوء التقدير تبيّن إنه لغوي ثقافي. بصرف النظر، إن كنت من مؤيدي أو معارضي «صراع الحضارات» وفقا لصموئيل هنتنغتون، ثمة تباين حقيقي في فهم مصطلحات رئيسية تحكم ما جرى وما سيجري، كمفاهيم الحياة والموت، المصالح العليا، الأمن الوطني والقومي، الأماني والأهداف القابلة للتحقيق، الوطن والدولة والحدود والسيادة، وأخيرا وليس آخرا الحرب والسلام: بيد من يكون القرار؟ ولصالح من؟.
ما قد يجري في آب -مطلعه أو أوسطه- لن يختلف عما جرى في نيسان إن كان المنطق السائد هو نفسه. المؤشرات قد ترجح العكس تماما. تصعيد من أجل خفض التصعيد. ها قد ضغطت إدارة الرئيس جو بايدن على نتانياهو علنا مرة أخرى بحسب موقع اكيوس الأمريكي. أخبره بعد تصفية إسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت في حارة حريك، أبلغه إنه سيعمل ما يلزم للدفاع عن إسرائيل، وعليه في المقابل الكف عن التصعيد والاتجاه نحو صفقة تبادلية، وقد تم. الوفد الإسرائيلي ذهب وعاد من القاهرة للتفاوض مع وفد حماس التي لم تعلن حتى الآن من سيخلف هنية، خالد مشعل أم خليل الحية؟ وسط أنباء السبت نقلت عن يحيى السنوار قائد حماس «الداخل» إشهاره الفيتو ضد مشعل دون تبنيه الحية.
بصرف النظر، العقرب الأقرب هو عقرب الثواني. في ظل التوتر السائد في المنطقة، ما عاد عقربا الساعة أو الدقائق هما الحاسمين بل ثوان معدودات. الفاصل بين تصفية الشيخ هنية والحج محسن (فؤاد شكر)، كان نحو ثماني ساعات، لكن الواضح، أن قرار التنفيذ عندما يكون الأصبع على الزناد والطلقة في بيت النار لا يستغرق إلا ثواني. هكذا كانت المسافة بين المقذوف الصاروخي الذي اتضح أنه أطلق من داخل حصن الحرس الثوري الإيراني الحصين في الزعفرانية لقنص هنية في عقر دار نظام ملالي في غرفة نومه، في ساعات السّحَر، نحو الثانية بعد منتصف ليل طهران..