لقد مروا من هنا قصة محمد البهار
إسماعيل الشريف
غزو المغول كان عاصفة مرت، أما الاحتلال الصهيوني فهو سرطان يستشري في الجسد الفلسطيني والعربي- ياسر عرفات
المذبحة والإبادة الجماعية التي تشهدها غزة ليست الأولى في العالم الإسلامي، فقد شهد العالم الإسلامي العديد من المذابح، لعل أشهرها سقوط بغداد على أيدي المغول عام 1258 ميلادي.
آنذاك، كان البرابرة الطغاة واضحين وصادقين في وحشيتهم. تفاخَرَ هولاكو بقتل كل شيء في بغداد، وأرسل رسالة إلى قطز، حاكم مصر وبلاد الشام، قائلاً: «من هولاكو ملك الشرق والغرب إلى المملوكي قطز الذي يفر من سيوفنا... ذبحنا كل الناس في بغداد، وسنهدم مساجدكم ونقتل أطفالكم وشيوخكم.»
أما برابرة هذه الأيام، فتراهم يرتدون سترات أنيقة وربطات عنق زاهية، وأيديهم ناعمة كالنساء. يخافون من الفئران ويشمئزون من الصراصير، ويقفون أمام الميكروفونات يتباكون على الأطفال والضحايا المدنيين، ويحذرون من الكوارث الإنسانية ويشددون على ضرورة تجنب سقوط المدنيين.
ولكن خلف هذه السترات وفي الغرف المغلقة، هم أكثر دموية وشرًّا من هولاكو. ففي الوقت الذي يتحدث فيه حاكم العالم الحر عن مجاعة أطفال غزة، يظهر وهو يتناول «الأيس كريم». وفي الوقت الذي يعترض فيه وزير خارجيته على استخدام القنابل الضخمة ضد المدنيين، ترسل حكومته 14 ألف قنبلة، يزن كل منها 2000 رطل، وهي كافية لتدمير حي سكني كامل.
سأقص عليكم قصة، وأقسم لكم أن هولاكو لم يفعل مثلها، ولن تقرأوها في أكثر فصول التاريخ الإنساني ظلامًا ودموية!
محمد البهار، شاب فلسطيني يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا، مصاب بالتوحد وبمتلازمة داون. كان شديد التعلق بوالدته التي فرغت نفسها للعناية بابنها صاحب الهمة العالية، تطعمه وتلبسه وتعتني بنظافته. كان يمثل لها كل شيء بعد أن استشهد زوجها على أيدي قوات الاحتلال عام 2002.
تمتع محمد بروح جميلة، وأحب الرقص والغناء وطبقه المفضل كان الملوخية الخضراء.
في الثالث من تموز، حاصرتهم قوات الاحتلال في منزل أقرباء لهم نزحوا إليه قبل أسبوع. كانت هذه المرة الخامسة عشرة التي ينزحون فيها خلال هذه المجزرة.
اقتحم الجنود البرابرة المنزل، وكان معهم كلب أطلقوه على محمد. بدأ الكلب ينهش صدره ويده، ومحمد يصيح ببراءة: «خلاص يا حبيبي». كانت تلك أول وآخر مرة يتكلم فيها في حياته.
ثم اقتادوه خارج المنزل واختفى ولم يعد. وبعد أسبوع، وجدوه جثة ملقاة على قارعة الطريق، وقد بدأت تتحلل والدود يأكل وجهه.
تقول والدته إن صورة الكلب وهو ينهش ابنها لا تفارقها، وشعورها بالندم لعدم مساعدته يقتل روحها!
في أيام هولاكو، كان إعلامه منسجمًا معه، لم يكذب أو يجمل أفعاله، بل على العكس، مارس المزيد من التخويف لخصومه. أما إعلام مجرمي العصر، فيقلب الحقائق إلى أكاذيب ويغسل العقول. نشرت قناة «بي بي سي» البريطانية الشهيرة على موقعها قصة محمد بعنوان مضلل صاغه الصحفي المخضرم فيرغال كين: «الموت وحيدًا لرجل في غزة مصاب بمتلازمة داون». لم يتطرق إلى إطلاق جنود الاحتلال لكلابهم عليه إلا في الفقرة السادسة عشرة بعد منتصف المقالة.
تعرضت «بي بي سي» لانتقادات لاذعة على تلاعبها بالحقائق، فقامت بحذف القصة. ثم نشرت خبرًا جديدًا بعنوان: «رجل مصاب بمتلازمة داون هاجمه كلب وترك ليموت، حسب ما قالت والدته.».
عندما ترى طفلاً صاحب همة يُعامَل بهذه الوحشية، لا توجد كلمات تعبر عن الشعور، فقط دموع وحزن وغضب. إنها قصة ستنطق بها الشجر والحجر.
بعد عام فقط من سقوط بغداد، هزم قطز هولاكو، وأعيد بناء بغداد. يذكر التاريخ قطز كبطل، وذهب هولاكو كما سيذهب نتن ياهو وعصابته وكل من دعمه أو غض بصره إلى مزبلة التاريخ.
بعد أعوام قليلة، أرى طفلًا فلسطينيًا يبتسم وهو يشير إلى مكان ما في غزة ويقول لصديقه: «لقد مروا من هنا!»